العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ

التراث والتجديد الإسلامي: أين الإبداع؟

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

إنني أتحدث بوصفي مواطنا عربيا مسلما يشعر بقوة بأن الضياع العربي الذي يعيشه كل الوطن لا يمكن إصلاحه إلا إذا عولج الضياع الذي تواجهه الساحة الإسلامية. فترتيب البيت الإسلامي هو مفتاح لترتيب البيت العربي.

وطبعا، فإن الساحة الإسلامية من الكبر والعمق بحيث إن الإنسان مضطر إلى انتقاء أمثلة محددة لتوضيح وجهة النظر التي يودُّ أن يطرحها. في البداية دعني أعبّر عما يجيش في قلوب الملايين من العرب المسلمين تجاه ما يعتبرونه من عدم استقرار في الحياة الفكرية الإسلامية في عصرنا الحالي بسبب كثرة التأويلات والاستنتاجات وتضاربها، بحيث أصبح من المستحيل على الفرد العربي المسلم أن يستقر على حال بالنسبة إلى القضايا الكبرى الإسلامية التي لها تأثير مباشر على مستقبل أمته ووطنه.

دعنا نناقش الوضع المضطرب لبعض تلك القضايا.

أولا - موضوع الشريعة الإسلامية

نجحت القوى الإسلامية في تثبيت هذا الموضوع في كل الدساتير العربية تقريبا عندما نص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر، أو المصدر الرئيسي، لكل التشريعات القانونية. هذا طبعا حسن. لكن المشكلة تبدأ في الحال بشأن ما تعنيه كلمة شريعة. فلغويا يعني لفظ الشريعة المنهاج أو الطريق. وفي القرآن ورد لفظ الشريعة مرة واحدة: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها» (الجاثية: 18)، أي جعلناك على طريق الدين فاتبعه. لكن شيئا فشيئا أصبحت عند البعض كل أحكام الدين كما بينت في القرآن الكريم والسنة النبوية وما تمخض عنه الفقه عن طريق الإجماع والقياس. هنا تطل الصعوبات برأسها.

أما النص القرآني فلا توجد مشكلة بالنسبة إليه، على رغم ما أحاط الآيات القرآنية، بسبب قواعد التفسير وأسباب النزول وموضوعات الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن، من زجٍّ في جدل لا معنى له وميول وأغراض بشرية وقراءات تفريعية لا حصر لها ولا عد.

أما نصوص السنة النبوية المطهرة فإنه لا حاجة إلى التذكير بالجدل الكبير بشأن أساليب جمعها والعناية بنقد الإسناد أكثر من العناية بنقد المتن وكثرة الأحاديث المنسوبة إلى النبي الكريم من دون وجه حق وخصوصا روايات أحاديث الآحاد المعروفة والشروح المختلفة للأحاديث نفسها.

وأما موضوع الفقه ممثلا في الأساس بمنهاجي الإجماع والقياس فإنه يطرح إشكالية كونه مجرد آراء للعلماء والفقهاء واجتهاداتهم، وبالتالي ارتباطه بالتاريخ وواقع الحياة في عصور غير عصورنا بحاجاتها ومشكلاتها الخاصة بأهلها ومجتمعاتها. بل إن الإجماع فيه خلاف كبير، فالبعض رأى فيه إجماع صحابة النبي، والبعض الآخر إجماع أهل المدينة في عصر الخلفاء الراشدين، والبعض إجماع ذوي الرأي في المجتمعات الإسلامية. وكل ذلك يؤكد أننا نتلكم عن فكر ديني وليس الدين الذي يقتصر في الأساس على القرآن الكريم والسنة المؤكدة. وطبعا فإن الفكر، الذي هو فهم وتفسير واستنباط، قد يعبر عن صميم الدين وقد يخالفه.

من هنا ظهر الجدل بشأن معنى الشريعة. البعض رآها منهاج الرحمة التي تحتاج إلى جو عام تترسخ فيه القيم الإسلامية في العقول والقلوب، والبعض رآها في القرآن والسنة النبوية المؤكدة، والبعض الآخر أضاف الفكر الإسلامي ممثلا بالفقه. ولا يحتاج الإنسان إلى كبير عناء ليجد تعقيدات موضوع الشريعة الإسلامية في تطبيقها في أرض الواقع في ضوء كل تلك الاختلافات في فهمها.

من هنا يصر البعض على أن الشريعة هي منهج لا يكتمل أبدا وإنما هو في حركة دائمة للتجدد والاستجابة لمصالح العباد في مختلف العصور ولتقدم الإنسانية على الدوام.

ثانيا - موضوع تطبيق الحدود

وهو موضوع يأخذ حيزا كبيرا من كل النقاشات التي تجري في الساحة الإسلامية. فالاختلافات احتدمت بشأن موضوع دار السلام ودار الحرب، أي موضوع الآخر خارج المجتمعات الإسلامية، وبشأن مسائل الزوجية والبنوَّة وما يربطها بموضوعات عقود الزواج والطلاق والوصية والميراث، وبشأن موضوعات المعاملات وخصوصا في الحقل الاقتصادي بما في ذلك موضوعات الربا المختلف عليها بشدة، وبشأن الموضوعات الجزائية بما فيها حد السرقة وحد القذف وحد الزنا وحد شرب الخمر وحد الردة. وإنه لمن المستحيل الدخول في الجدل الدائر بشأن كل حد من هذه الحدود إذ إن كل موضوع من هذه الموضوعات يحتاج إلى محاضرة مستقلة.

لكن الواضح أن الاختلافات تطول كل تفاصيل التطبيق من توقيت، إلى تقدير للظروف، إلى توافر الشروط، إلى معاني الكلمات نفسها. أضف إلى ذلك مدى ارتباط تطبيق الحدود بموضوع التعزير. وفي جميع الأحوال فإن رأيا قويا يصر على أنه لا يمكن أن تطبَّق الحدود قبل أن يسبقها مجتمع عادل يتميز بالفضل والتقوى وحساسية الضمير، وهم يشيرون إلى التطبيقات الخاطئة للشريعة الإسلامية في مجتمعات تتصف بالظلم في توزيع الثروة، وفي هيمنة الاستبداد، وفي ضعف التكافل الاجتماعي، وفي تراجع القيم الأخلاقية، وفي تفاقم الأمية.

وطبعا فإن هناك من يخالف هذا الرأي ويصر على التطبيق في الحال.

ثالثا - قضايا

الحكم في المجتمع الإسلامي

هذا موضوع تفجر في السنوات الأخيرة على نطاق واسع عندما أصبح موضوع الديمقراطية موضوع الساعة. وزادت حوادث الجزائر، بانتصار الإسلاميين في الانتخابات ثم الانقلاب عليهم من قبل الآخرين ودخول الجزائر في دوامة العنف والعنف المضاد، من أهمية حسم هذا الموضوع في الساحة الإسلامية.

وطبعا فإن موضوع الحكم والدولة والسياسة لم يحصل على نقاش معمق في الفقه الإسلامي القديم، ما جعل هذا الموضوع شبه جديد إلى حد ما في المناقشات بين الإسلاميين وغيرهم.

وكالعادة، وما إن فتح النقاش، حتى تبدت الخلافة بين وجهات النظر الإسلامية ذاتها. فمن موافقة تامة على أن يكون الحكم ديمقراطيا كما يصفه فهمي هويدي عندما يقول: «إننا نعتبر أن الديمقراطية هي أفضل صيغة ابتكرها العقل الإنساني حتى الآن للإدارة السياسية للمجتمع»، إلى شبه رفض تام عندما يقول فتحي يكن: «إن القيادة في الإسلام فردية... والحقيقة التي لا لبس فيها أن القائد في النظام الإسلامي هو صاحب الصلاحية في تدبير شئون الأمة، إلا أنه ليس ملزما باتباع رأي الأكثرية في الشئون والأحوال كافة، وتفسير آية الشورى واضح الدلالة إلى أن القول الفصل بعد المشورة إنما يعود إلى صاحب الصلاحية وليس إلى الأكثرية».

ولما كانت الشورى هي في قلب موضوع الحكم، على أساس أنها ذكرت في القرآن الكريم، فقد اختلفت الآراء بشأنها. فبينما هي عند الشيخ راشد الغنوشي والشيخ حسن الترابي أصل من أصول الدين ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف، تبقى عند الكثيرين من الآخرين حكما فرعيا. وينعكس ذلك في الحال عند الشيخ القرضاوي ليؤكد: «دولة الإسلام ليست كسروية ولا قيصرية، إنها لا تقوم على الوراثة التي تحصر الحكم في أسرة واحدة أو فرع من أسرة، يتوارثه الأبناء عن الآباء، والأحفاد عن الأجداد كما يتوارثون العقارات والأموال».

لكن الغالبية ترى أن الشورى إقرار بولاية الأمة على نفسها، وحقها في اختيار الحكم الذي ترضاه. لكنها ليست وصفة جاهزة، بل مبدأ متروك للاجتهاد كما يؤكد الشيخ محمد الغزالي وعبدالسلام ياسين وغيرهما.

ويبدو من ذلك أن المصالحة بين الشورى والديمقراطية قد حسمت. لكن مع الأسف ليس الأمر كذلك:

(1) فالحق في الدولة الإسلامية، دولة الشريعة والشورى، ليس حقا مدنيا، كما تقول الديمقراطية، بل هو حق الله.

(2) والأمة في الخطاب الإسلامي ليست هي الأمة القومية أو الاجتماعية أو المدنية بل هي الأمة - الملَّة: جماعة المسلمين.

(3) والشورى ليست ملزمة عند البعض، وعند الآخرين الذين يؤمنون بأنها ملزمة يشترطون أن تكون صادرة عن أهلها في محلها، أي أهل الحل والعقد. وهؤلاء اختلف الرأي بشأنهم.

(4) والشورى تقبل الديمقراطية باعتبارها طريقة تنظيم وأداة لإدارة الأمور، لكنها لا تقبل انطلاقاتها الفلسفية ولا منظومتها الروحية. ولا حاجة إلى القول إن مناقشات الفلسفة وقضايا الروح تكثر فيها التخمينات والتفسيرات.

(5) والمواطنة في الديمقراطية يوازيها التكليف في العرف الإسلامي «فالإسلام يعتبر كل فرد مكلفا، أي مدعوا إلى القيام بواجباته نحو الله ونحو المجتمع ونحو نفسه» كما يقولها علال الفاسي. وإذا كان الأمر تكليف المسلمين، فماذا عن غير المسلمين؟

(6) وأما بالنسبة إلى المجالس النيابية فهناك من يقول عنها: يتولى السلطة التشريعية في الحكومات الدستورية الحاضرة أعضاء المجالس النيابية... وأما في الدولة الإسلامية فالذي يتولى السلطة التشريعية هم المجتهدون وأهل الفتيا» كما يلّح عبدالوهاب خلاَّف. ويتوجه الإمام الخميني إلى الموضوع مباشرة عندما يصرح «بما ان الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون، فيجب أن يكون علماء القانون، بل والأهم علماء الدين - أي الفقهاء - هم القائمون بها».

وطبعا هذا قليل من كثير من التحفظات على بعض الممارسات الديمقراطية، ما يفرغها عند البعض من أهم مقوماتها كما نجدها عند اللاري الذي يؤكد أن «من البديهي أن الانتخابات لا تسفر عن اختيار الفرد الأصلح، كما أن الأكثرية لا يمكن أن تكون ميزانا للحق والباطل».

ما هو بعض المطلوب؟

كان القصد من تلك الأمثلة التدليل على التأزم الدائم في كثير من القضايا المطروحة في الفكر الإسلامي. وهو تأزم يعكس نفسه على الفرد العربي المسلم فيدخله في متاهات عدم اليقين بالنسبة إلى الحلول الإسلامية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما العمل تجاه هذا الوضع؟ في اعتقادي أن المشكلة تكمن في تبعثر وفردانية الجهود المبذولة لمواجهة القضايا الإسلامية. إذ لا يوجد شك في أن جهودا ضخمة قد بذلت منذ بدايات القرن التاسع عشر لتجديد الفكر الإسلامي. في البداية كان الهاجس عند المفكرين الإصلاحيين هو موضوع إرجاع الحيوية إلى الفكر الإسلامي من أجل فكرة تقدم المجتمعات الإسلامية ومن أجل مواجهة الحلول التي تطرحها الحضارة الغربية. كان الأمران هما محور أفكار الشيوخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والطهطاوي والكواكبي وخيرالدين التونسي والنائيني بأشكال مختلفة، لكنها جميعها انفتحت على فكر الآخر وحاولت فهمه ثم حاولت أن تفيد منه لدراسة الفكر الإسلامي وتطويره وتنقيته. وقد قدم بعض هؤلاء حلولا معقولة لكثير من قضايا عصرهم.

ثم تلتهم موجة أخرى من المفكرين أمثال علي عبدالرزاق وعبدالرزاق السنهودي وعبدالحميد بن باديس وعلال الفاسي. وكان التركيز من قبل كل أولئك على إنتاج فكر إسلامي جديد.

وعلى رغم أن المرشد حسن البنا ركز في حركة الإخوان المسلمين على الجوانب العملية وعلى قضية التنشئة الدينية والثقافية فإن جهوده وجهود حركته أضافت أبعادا جديدة إلى مسيرة الإصلاح الفكري، وعلى الأخص السياسي منه.

لكنّ انقطاعا حصل بصعود مدرسة سيد قطب وتلامذته عندما أصبح التوجه نحو الثنائيات والهوية الإسلامية وإحياء موضوع الحاكمية والنظر بعين الحذر إلى الآخر في الحضارة الغربية، الأمر الذي هيأ لقيام تفريعات منغلقة على نفسها وغير متسامحة، بل وفي بعض الأحيان ممارسة للعنف.

واليوم تعود المحاولة من جديد على يد كتّاب يحاولون من جديد ربط الحاضر بحركة الإصلاح السابقة من أمثال الشيخ يوسف القرضاوي وأحمد كمال أبوالمجد ومحمد سليم العوّا وطارق البشري وفهمي هويدي ورضوان السيد وفهمي جدعان وغيرهم.

لكن هؤلاء يعملون كأفراد بينما يطرح السؤال نفسه: لماذا لا يوجد تيار فكري إسلامي جديد يستفيد من المذاهب الإسلامية السابقة ولكن يضيف إليها ما يقتضيه الحال وتتطلبه ظروف الأحوال المعيشية التي نحياها؟

منذ أكثر من خمسة عشر عاما طرحت على بعض الإخوان العاملين في الحقل الإسلامي فكرة قيام مؤسسة اجتهادية جديدة تضم بعض فقهاء ومفكري الأمة وعلمائها في الإنسانيات وعلوم الاجتماع والاقتصاد والعلوم الطبيعية وغيرها، لبناء مؤسسية اجتهادية غير فردية من جهة، وللتحضير لقيام مدرسة فكرية فقهية جديدة آن أوان وجودها في الساحة.

في اعتقادي، إن قيام مثل تلك المدرسة أصبح ضرورة ملحة بدلا من الاعتماد على جهود فردية متناثرة. عند ذاك نهيئ لزخم من الإبداع الحقيقي في ساحة الفكر الإسلامي. ذلك أن هناك حاجة، يذكرها الكثيرون في كتاباتهم، إلى الاجتهاد في قراءة جديدة للنصوص القرآنية والنبوية، وإلى الاجتهاد في تنقيح الفقه الإسلامي الكبير، وإلى إسقاط الغثّ وإبقاء المفيد، وإلى الاستفادة من علوم العصر في استنباط مناهج أفضل لتلك القراءات. ولا يضير الأولين أن تضاف إلى اجتهادهم العظيم اجتهادات جديدة، فالكل في النهاية يسعى إلى إعلاء كلمة الله، إعلاء دين الإسلام العظيم.

مفكر بحريني. والمقال محاضرة ألقيت في «بيت القرآن» بتاريخ 13/11/2003

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 438 - الإثنين 17 نوفمبر 2003م الموافق 22 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً