إجازة الشيخ عبدالله السماهيجي للشيخ ناصر الجارودي القطيفي التي كتبت العام 1716م، أي قبل ثلاثمئة سنة تقريباً، هي من الإجازات المهمة والآثار الخالدة التي تصوّر طبيعة الحياة العلمية في البحرين في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين.
وقد بقيت هذه الإجازة العلمية منسيةً في المكتبات الخاصة لثلاثة قرون فلم تطبع حتى على الحجر، وقد صدرت مؤخراً بتحقيق ممتاز للشيخ مهدي العوازم من علماء المنطقة الشرقية.
أهمية هذا الأثر الكلاسيكي أنه بات مصدراً لكل من جاء بعده ممن اهتم بالكتابة في حقل تراجم العلماء والتاريخ وأدب الإجازات العلمية، كالسيد عبدالله الجزائري من أعلام القرن الثامن عشر الميلادي في إجازته الكبيرة، والشيخ يوسف البحراني (ت 1772) في لؤلؤته، والمحقق الميرزا حسين النوري (ت 1902) في مستدركه، والشيخ الطهراني (ت 1970) في طبقاته وذريعته، وهي أمهات الكتب في هذا الفن.
توفر الإجازات العلمية في الغالب مادة تاريخية وعلمية تغري الباحثين بالدراسة، وتمنحهم فرصة التعرف على تراجم العلماء الذين حفظوا الحديث النبوي الشريف وعن أهل بيته، والتعرف على أسمائهم وأنسابهم وكناهم وألقابهم، ومعرفة شيوخهم الذين أجازوا لهم، ومعرفة من قرأ عليهم والتعرف على شهادات الشيوخ لتلاميذهم، وشهادات التلاميذ لشيوخهم بالأعلمية، والشهادة لهم بالثقة والاطمئنان لثقتهم والقبول لهم على الرواية عنهم.
كما تعطي الإجازة فرصة التعرف على العصر الذي عاشوا فيه، ومكان وزمان سماعهم للأحاديث التي يرونها، فضلاً عن معرفة الطبقة التي عاصروها من العلماء، إلى غير ذلك مما يمكن أن يكون مادة تاريخية مهمة.
تطفح كتاب الإجازات بالتراجم والمعلومات التاريخية المرتبطة، فنجد في إجازة الشيخ السماهيجي اهتماماً بالغاً بعلماء المنطقة عموماً والبحرين خصوصاً، فترجم كل من تعرض إليه ذاكراً كتبه ورسائله، وبعض ما يتعلق به من مواقف. كما وتتضمن كتب الإجازات معلومات دقيقة تتيح للقارئ معرفة مراكز العلم في البلاد الإسلامية وحركة تنقل الأفراد من وإلى بلدان مختلفة. وإجازة الشيخ السماهيجي مثلاً سمحت لنا بفهم طبيعة العلاقات العلمية التي ربطت البحرين بإيران والعراق وبلاد الشام والهند وشبه الجزيرة العربية.
وبالإمكان الاستفادة من هذه الإجازات العلمية في فهم طبيعة النشاط العلمي والثقافي لعلماء البحرين، ويدخل ضمن هذا النشاط العلمي والثقافي لعلماء البحرين: التدريس، وتصنيف المؤلفات، والترجمة، والمراسلات العلمية، والإجابة على الأسئلة، والخطابة والإفتاء والهجرة العلمية وغير ذلك من مظاهر الحياة الثقافية التي كان يمارسها العلماء في السابق ونجد لها ذكراً مطولاً وتفصيلات مهمة في أدب الإجازات عند علماء البحرين.
ونلاحظ اهتماماً يُبديه الشيخ السماهيجي بالمسلك الأخباري فيصنف المترجمين الى أصولي مجتهد وأخباري محدث في الأغلب، وتعرض استطراداً لبعض نظرات الأصوليين ورد عليها، إلا أنه مع ذلك أنصف العلماء المجتهدين ومدحهم وإن خالفهم في طريقتهم وآرائهم، كمخالفته لبعض آراء الأخباريين ومسالكهم. وبهذا يتضح مدى التزام الشيخ السماهيجي بالنقد الموضوعي الهادف البعيد عن أساليب التجريح والنيل الشخصي التي نعثر عليها عند غيره من العلماء المتقدمين.
إن الإجازات الصادرة عن العلماء السابقين هي بمثابة «فهارس كتب» أو «دائرة معارف عامة»، إذا ما تسامحنا في التعبير، فالشيخ المجيز يبذل في الإجازة، الكبيرة منها طبعاً، جهداً كبيراً في سبيل توثيق مصنفات السلف الصالح من شيوخه، فيذكر في ترجمة الشيخ كل ما عثر عليه من عناوين مصنفاته، وكثيراً ما يضيف أبواب الكتاب بالتفصيل كما فعل الشيخ السماهيجي في الإجازة، عندما تحدّث عن كتاب العلامة المجلسي «بحار الأنوار»، وهذه ظاهرة بارزة في أدب الإجازات تحكي عن حميّة علمائنا السابقين وتحمسهم لخدمة العلم، فالشيخ النجاشي أحمد بن علي (ت 1058م) يذكر في كتابه المعروف بـ «رجال النجاشي»، نحو أربعة آلاف مصنف من كتب المترجم لهم، معترفاً بالقصور في عدم بلوغ الغاية في ذلك.
كما تعطينا الإجازات ثروة تاريخية بالإمكان توظيف معطياتها في التثبت من الحوادث التاريخية، عبر مقارنة الأحداث وتحليلها وربطها بالسياق التاريخي العام. إذ لا تقتصر معلومات الإجازات في العادة على معلومات ذات طبيعة دينية أو ثقافية وأدبية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى إعطاء الكثير من المعلومات المتعلقة بالأحداث والوقائع السياسية التي جرت أو تجري في وطن الشيخ المجِيز (المانح للإجازة)، وهذا ما نلاحظه على سبيل المثال في «لؤلؤة البحرين»، عندما تحدّث البحراني كشاهد عيان عن الأحداث الدامية التي تعرضت لها البحرين في القرن الثامن عشر عقب هجمات العمانيين اليعاربة.
وتشكل الإجازات العلمية سجلاً وثائقياً يتضمن الكثير من الأسماء التي يتم الإشارة إليها ضمناً في سياق الحديث عن المشايخ المنتظمين في سلسلة السند المتصل بالنبي (ص) والأئمة، ومن هؤلاء الذين يتم الإشارة إلى أسمائهم واستعراض نشاطهم العلمي، طبقة علمية كان لها دور ثقافي متميز وكبير في الحضارة الإسلامية على مر التاريخ، ألا وهي طبقة «النساخين»، نسّاخي الكتب أو الوراقين.
ولأهمية مهمة النسّاخين، برز لدى العلماء المتقدمين ظاهرة «إجازة المخطوط» وهي تعني «توثيق نسخة المخطوط المجازة، بمعنى أنها بعد اختبارها بالإقراء أو السماع تعد سليمةً ومطابقةً لحقيقة مضامين الكتاب معنى ومبنى، كما وضعها وأرادها المؤلف. وهي بالطبع مأخوذة من إجازة الرواية التي تعني الإذن برواية الحديث لوثاقة المجاز.
كما حفظت لنا الإجازات العلمية العديد من النصوص التراثية الضائعة، وكثيرٌ من أسماء الكتب التي حفظتها كتب الفهارس والإجازات مُنيت بالضياع، ولكن لحسن الحظ فإن عدداً من هذه الكتب نجا بفعل عامل الاستنساخ وتعدّد النسخ الخطية، فكتاب «السلافة البهية في الترجمة الميثمية»، للشيخ سليمان الماحوزي (ت 1709م) وهو سيرة فكرية للشيخ كمال الدين ميثم البحراني (ت 1280م) ذكره المحدث البحراني في إجازته «لؤلؤة البحرين»، وأورده بتمامه في كشكوله عن نسخه خط المؤلف نفسه.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4378 - الإثنين 01 سبتمبر 2014م الموافق 07 ذي القعدة 1435هـ
شكرا لك عزيزي
شكرا لمرورك الكريم.. ممتن لثنائك العاطر
تحياتي أستاذ وسام
كلمة شكر قليلة في حقك أستاذي وسام السبع فكل أسبوع تبرز لنا مقالاً يظهر جهد مضني و مبذول عظيم موثق تاريخيًا و اجتماعيًا و دينيًا لتراث البحرين المندثر ،،، فدوم للأمام ( بنت الموسوي) .
نزار عبد الجبار
عرض جميل ومشوق وجهد كبير ومعلومات قيمة تشكر عليه
وينهم
وينهم الا يقولون الشيعة أصلهم مو من البحرين
جهد كبير تشكر عليه
توثيق مثل هذه الامور وبكل صراحة يعد جهد كبير لا نملك ان نرفع لك الشكر الجزيل على ما قمت به في وقت يحارب فيه تراث اهل البيت وبخاصة في البحرين