لو طلب من أي واحد منا أن يذكر أسماء بعض علماء الدين لربما ذكر أسماء الكثيرين، أما لو طلب منه أن يذكر أسماء المثقفين لربما ذكر أسماء القليل فقط. قد يكون ذلك، في جزء منه، لوضوح المقصود بعالم الدين المهتم بالعلم الديني وعدم الوضوح المماثل للمعني بالثقافة، خصوصاً أن معنى الثقافة قد يضيق أو يتسع. ولكن الأهم أن ذلك يعكس موقع الدين المتقدم في المجتمع البحريني والحاجة المستمرة لمن يتولى القضايا الدينية والقضايا العامة من منظور ديني، كما قد يعكس، من جهة أخرى، موقع الثقافة المتدني. وفي الوقت الذي يجب أن يظل الدين والاهتمام به والتخصص فيه في موقعه المتقدم، تبدو هناك حاجة لموقع متقدم للثقافة والمثقفين أيضاً.
بصورة عامة، يشترك عالم الدين والمثقف في الاهتمام بقضايا الشأن العام والانشغال فكرياً بقضايا العلوم الإنسانية، ولكنهما يختلفان في مركز ذلك الاهتمام. يركّز عالم الدين في دراساته على العلوم الخاصة بالعلم الشرعي كالفقه والأصول والعقائد وغيرها، كما قد يقرأ في مساحات أخرى كالفلسفة والاجتماع وعلم النفس والتربية. فالعلوم الشرعية المباشرة هي الأصل والمركز، وتبقى المساحات الأخرى مفيدة ولكنها ليست محور الاهتمام الأول. أما المثقف فإن مجال اهتمامه على العكس من ذلك، فهو ينطلق في اهتماماته بمساحة النتاج الإنساني غير الديني، بمعناه الخاص، دون أن يهمل القراءات ذات الصلة بالمعرفة الدينية. فالمثقف، عادةً، يجيد القراءات المتعددة ومنها القراءة الدينية التي يصل إليها بعد أن يؤسس لنفسه مساحة رأي مستقلة تكون حاضرة ومستعدة لإثارة الأسئلة.
بعبارة أخرى، ينطلق عالم الدين من القراءة الدينية التي تصبغ بلونها القراءات الأخرى وتكون الخلفية التي يقيم على أساسها القضايا التي يتعاطاها. أما المثقف فينطلق من القراءة الإنسانية أو من القراءة الدينية العامة، غير المركزة، ليؤسس شخصيته المستقلة على أساسها.
بالتأكيد فإن بين عالم الدين والمثقف قد تأتي بعض الأمثلة التي تشكل المساحة الرمادية كعالم الدين المثقف أو المثقف المتدين، ولكن، بصورة إجمالية، تبدو مركزية اهتمام عالم الدين مختلفة عن المثقف ولهذا الاختلاف تأثيره على قراءة القضايا المعاصرة وكيفية التعاطي معها.
في البحرين تبدو فرصة عالم الدين في المساحة المتاحة للتعبير عن رأيه والمشاركة المجتمعية أكبر من مساحة المثقف، ولذلك أسباب متعددة. الموقع المتقدّم للدين في المجتمع البحريني تمنح عالم الدين موقعاً متناسباً مع ذلك. هناك حاجة لدى الناس في التعرف على رأي الدين في القضايا المختلفة كقضايا الفرد والأسرة والمجتمع، في قضايا السياسة والتاريخ وغيرها. هذه الحاجة تفتح لعالم الدين الكثير من الأبواب التي لا تفتح لغيره. بإمكانه أن يؤم صلاة الجماعة ويتحدث بحديث يختاره بعدها، يرتقي المنبر، تكون له الأولوية في أحاديث المجالس، يكون صاحب كلمة في الاحتفالات الدينية أو المناسبات الاجتماعية، يؤخذ برأيه في الكثير من المشاريع الخاصة بالمنطقة التي يسكن فيها، وغير ذلك. بكلمات أخرى، يتسيد علماء الدين المشهد الاجتماعي، في أبعاده المختلفة، بسبب ارتباط المجتمع العميق بالدين. أما المثقف فتبدو المساحة المتاحة له متواضعة، الأمر الذي يخلق تحدياً للمثقف نفسه وهو ما قد تصيب تداعياته المجتمع أيضاً.
قد يعيش المثقف حالة من حالات عدم التوازن أو عدم التساوي بين ما يقرأ وما يرى، بين ما يفكر فيه بصمت وما يكبته من أفكار وأسئلة. نتيجة للإطلاع والقراءة المتواصلة ربما تتخلق لدى المثقف الشخصية المستقلة القادرة على إثارة فكرة أو تحدي فكرة. عدم توفر المساحة الكافية له للتعبير عن هذه الأفكار والمناقشات والأسئلة قد تحرم المجتمع من إثارات مهمة ومعاصرة وقائمة على أسس قراءات إنسانية مرت بتجارب مشابهة. كما أن ذلك قد يتسبب في عزوف المثقف عن الهم المجتمعي والاكتفاء بالقراءة النظرية والتواصل مع التجمعات الثقافية المنعزلة، الأمر الذي يخلق منه مثقفاً تنظيرياً صرفاً.
ربما يكون من المفيد التفكير في الحاجة للاختصاص والوعي والتواضع في العلاقة بين عالم الدين والمثقف. مساحات العلم الديني بالإضافة لمساحات الثقافة تبدو شاسعة للغاية، وهذا ما يقتضي التخصص سواءً أكان برغبة شخصية أو بإرادة مجتمعية. قد يختار عالم الدين أو المثقف التخصص في مساحة معينة وقد يختار المجتمع لهما ذلك أيضاً. قد يتصدى البعض لمجال لا يتقنه إحساساً منه بالحاجة إلى سد نقص ما أو لشعور بقدرته على إبداء الرأي فيه، ولكن بمقدور المجتمع أن يجعله في مجاله المناسب من خلال إفساح المجال له في المجالات التي يتميز فيها فقط والرجوع لغيره في المجالات الأخرى.
عالم الدين أو المثقف الذي لا يبدو مميزاً في مجال السياسة، على سبيل المثال، يجدر به أن لا يتصدى لذلك، وعلى المجتمع أن يساعده في مهمة عدم التصدي هذه بالاستفادة منه في المجال الذي يتميز فيه فقط. بالإضافة إلى الاختصاص، تبرز الحاجة للوعي بالقضايا المجتمعية الكبرى وبالأولويات والأدوار المتبادلة. هذا الوعي يستلزم الحرص على سلامة الدين وعلى الاستفادة من الطاقات المثقفة في الوقت نفسه. في الإطار العام، تبدو الثقافة مساحة ضرورية لإثارة الأفكار ومناقشة القضايا المعاصرة برؤى وخلفيات متعددة. قد يستند عالم الدين في تعزيز موقعه الاجتماعي على الخلفية التاريخية المتدينة للمجتمع البحريني، ولكن المثقف قد يستند أيضاً إلى التحديات المعاصرة التي تفرضها العولمة وتحديات القرن الحادي والعشرين والتطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل مع العالم، الأمر الذي يستدعي النظر إلى القضايا وقراءتها بطريقة معاصرة أيضاً. وبالإضافة إلى الاختصاص والوعي، هناك حاجة للتواضع الذي يعزّز من مفهوم التشارك في خدمة المجتمع والاستفادة من الجميع في سبيل خدمة المجتمع.
المجتمع في حاجة ماسة لدور عالم الدين ولدور المثقف، وتوفير مناخات الحوار الهادئ بينهما سيعد إثراءً يستحق الاهتمام. إفساح المجال للمثقف ليقوم بدوره يحتاج إلى الوعي بأهمية دوره ومساهمته، كما يحتاج لمساحة من الحرية التي تجرؤ على الاستماع للآراء التي لم تعتد عليها. ربما يكون من المفيد تكثيف الفعاليات الحوارية الهادئة والتي تسمح للمثقف ولعالم الدين أن يطرح كل منهما ما يريد بكل أريحية ودون شعور بعلو أو دنو في المقام الاجتماعي.
إقرأ أيضا لـ "حسن سعيد"العدد 4376 - السبت 30 أغسطس 2014م الموافق 05 ذي القعدة 1435هـ
توضيح
إن بروز رجال الدين في المشهد الاجتماعي والسياسي في البحرين مرتبط باسباب تاريخية ، كذلك المثقف . والملاحظ انه عند تسيد رجال الدين للمشهد يختفي المثقفون بالضرورة كما هو الآن ، في حين ان رجال الدين كانوا بعيدين عن المشهد عندما كان المثقفون يتسيدون المشهد في البحرين من الخمسينات الى الثمانينات . الآن انعكس الوضع لاسباب تتعلق بازمة النظام وبطبيعة الحال المجتمع . يوسف مكي
هو مجرد اصطلاح في المصاديق العامة
انت اخذت مصداقا عاليا لعالم الدين، ومصداقا متدنيا للمثقف وقارنت بينهما، لو نظرت للموضوع من ناحية الاصطلاح لوجدت كثرا ممن يسمى عالم دين ليس الا مثقفا متواضعا وصغيرا، ولوجدت مثقفين في الدين فقط علماء بمعنى الكلمة. وهنا الاصطلاح الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية والجنبة الارتباطية والتاريخية تلقي بظلالها. وشكرا للموضوع
المجتمع له نظره اخرى
عزيزي احسنت على طرح هذا الموضوع المهم .لكن من خلال تجربتي في العمل الاجتماعي اقول المجتمع يحتاج الى من يقدم للمجتمع وليس الى شخص عالم الدين او المثقف ، ما الفائده من مثقف همه القراءة وجمع اكبر رصيد من المعلومات لكنه يجلس في زاويه ضيقه حددتها اليه ثقافته وما الفائده من عالم دين درس عشرات السنين في الحوزات والجامعات الدينيه والاكاديميه وعلمه محصور في مكتبته فقط .الاثنان اذا لم ينخرطوا ويعيشوا مع الناس من خلال العمل الاجتماعي لاحاجة للمجتمع بهما . علمهم لنفسهم فقط
ابراهيم الدوسري
عزيزي زائر واحد لم اجد كلمة اقولها لشخصك الكريم سوي انني احترمك وارفع لك القبعة والشكر يعود للاستاذ الفاضل حسن سعيد الذي يتحفنا بمقالتة القيمة