في النص الملتبس... في الفهم، والنظر، وفصْله عن حركة الزمان والمكان الذي يُراد فيه تقرير جانب من أحكامه، ونمط العيش الذي يحدّده، وطبيعة العلاقات مع العالم، وتعميم الأخذ بتلك الأحكام تكمن الكارثة. المشكلة في عالم البشر اليوم ليست في بعض النصوص وحدها؛ بل في فهم تلك النصوص وإخضاعها لإرث من «القبْض» وانعدام «البسط». إرث من احتكار كل شيء؛ بدءاً بالفهم وليس انتهاء بفرض ذلك الفهم على من لا حول لهم ولا قوة. ذلك على مستوى النص الصادر ضمن التشريع الأرضي.
على مستوى فهم النص الصادر عن الوحي أو من يُوحى إليه؛ تكمن معظم علل المسلمين اليوم؛ واكتوى بنار ذلك الالتباس في الفهم من هم خارج الدائرة في صور تعاطٍ وصيغ لها بدايات ولكن من العسير الوقوف على نهايات لها في ما نشهد. التكفير تعدّى تلك الدائرة إلى استباحة الذبح والتفخيخ؛ من دون أن ننسى تطبيق تلك الممارسات والتعاطي مع أبناء الدِّين الواحد، وفي الدائرة الواحدة؛ تطبيقاً لـ «الأقربون أولى - بالتكفير والذبح والتفخيخ - لا المعروف». التكفير، واحد من صور ونتاجات الفهم الملتبس، وفي كثير من الأحيان: الفهم المحتكر والمختطف.
صار الزمن مُلتبساً هو الآخر. كأنَّ فيه استدعاءً لزمن لا علاقة لبعض المسلمين به؛ من حيث اشتراطات وأدوات الوجود الفاعل فيه. الوجود من حيث هو إضافة للفعل والحراك والكشف؛ وليس من حيث هو كُتَل لحم بشري متكدّس في سجلّ إحصاء النفوس!
لا يحتاج أحدنا إلى إعمال أدوات الفحص؛ وأن تتوافر له دراية ليقرأ فوضى الواقع اليوم والتباسه. الأداء اليوم يكشف عن وجود ملتبس ومُتلبّس؛ بفعل الذين احتكروا واختطفوا فهم النص، وارتأوا له حدوداً يجب ألاَّ تتجاوز فهمهم دون غيرهم، وانحرفوا بمقاصده إلى وُجُهات تفرض على الآخرين الإتباع والخضوع، وتوقيت وترتيب الفهم والسلوك والعقائد؛ بحسب قوة وهيمنة وامتداد ذلك الاحتكار للفهم.
الخطورة في الأمر لا تكمن في التباس الفهم للنصوص. بل في تحريف مقاصد تلك النصوص ووجهاتها لتكون في خدمة الذي يريد رفعها وترويجها والاستشهاد بها. نحن هنا إزاء تلبُّس؛ تماماً كما يقبض على أحدهم متلبّساً بجريمة ومنكر من الفعل. وأمام المخاطر والفظاعات التي تنتج عن اللّبس والتلبّس؛ يكون واقع الناس وحيواتهم ومركزهم وموقعهم من العالم نسياً منسيّاً؛ بل هو كذلك.
في مقاربةٍ عميقةٍ اشتغل عليها الراحل المفكّر، نصر حامد أبوزيد، في بحثه المهم «النص والسلْطة والحقيقة... إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة»، يتناول ضمن مساحة يستدعي فيها شواهد وأسماء بعض الذين تصدّوا لما يعرف بمشروع النهضة، والأدوات والنظر الذي تعاملوا به في تعاطيهم مع النص؛ وتحديداً أولئك الذين يشتغلون على النص الديني، ويقدمون فهمهم له في صيغ مشاريع وطرق حياة ومناهج. يقدّم أبوزيد مقاربة إشكالات ذلك النص، تلك التي تراوحت بين مد وجزْر. يلتقط جانباً من النظر والأطروحات وهو يتناول جانباً من ذلك الخطاب، تلك الأطروحات لم تنْجُ مما أسماها «ثنائية البنية التلفيقية للخطاب» والعلاقة الملتبسة بين «الاجتماعي والديني» في فهم الخطاب الديني، وانعكاس ذلك على التعاطي مع قضايا وأفكار العصر والانسجام مع المنظومة المتحركة من الأفكار والمفاهيم. مثل ذلك الانسجام لا يعني بالضرورة الذوبان والتخلي عن المرتكزات، ولا يعني في الوقت نفسه تعميق وتعميم حال الالتباس واختطاف الفهم وادّعاء التصدّي لإشكالات العالم - كل العالم - اتكاء على الفهم الملتبس والمغلوط وإرجاعه إلى النص نفسه، وتحميله مسئولية ما ينتج عنه من كوارث ومآزق بسبب ذلك الفهم.
فرْض فهم محددّ ومؤطر على مجموع بشري؛ قلّ أو كثُر، هو في حد ذاته في العميق من المأساة والخطورة. محاولة شمول الفرْض ذاك، بكل الالتباس الذي يتمترس به، المجاميع البشرية الأوسع والأكبر والأكثر امتداداً؛ سواءً ضمن الدائرة الواحدة والمعتقد الواحد؛ أو تجاوزاً إلى ما بعدها بمراحل، يضع هذا العالم - بل وضعه في واقع الأمر - في دائرة الاقتراب من تقديم وصفة لانقراض ومحو التعدّد، والخروج من دائرة الالتباس إلى دائرة الانتماء والتماهي مع تلك الوصْفة.
الشاهد الذي يمكن تقديمه في هذا الصدد، تجاوز مرحلة الالتباس إلى مرحلة إيجاد نصّه الخاص بمعزل عن النص الذي من المفترض أن يكون الفهم أمامه متعدّداً، ومن المفترض أن يكون هو المرجعية التي يتم الاحتكام إليها في التعاطي مع كل القضايا، من المعاملات، أو العبادات وغيرها.
بعض ما نحياه ونعاينه، ممارسة وتبريراً، خرج عن حقيقة النص نفسه ودائرته؛ بل هو متورط ومقتنع من خلال الفعل المناقض لحقيقة النص، والممارسة التي لا تستقيم والأخلاق والإنسانية في أبسط المعاني التي يمكن الوقوف عليها، وهو بذلك يدخل مرحلة احتكار واختطاف العالم في صورةٍ من الصور، بعد أن تم اختطاف النص وفهمه، ولنا في ممارسات ما يسمى «داعش» وإخوته وأخواته، الشاهد الحاضر.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4370 - الأحد 24 أغسطس 2014م الموافق 28 شوال 1435هـ