مذكرات السيدة الوزيرة: مادلين أولبرايت التي نشرت منها بالعربية حلقات عدة، تبدو كعملية استبطان لأحداث سياسية؛ شهدها العالم إبّان إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون للبيت الأبيض؛ وفي عملية الاستبطان استذكار، وإعادة توليفة؛ في زمان لاحق، لأفكار، سبق لها أن حدثت في الماضي، أو هي كما يقول علماء التحليل النفسي محاولة للتفكير «وأنا على النافذة أنني أسير في الشارع» وإذا كانت أهمية استذكار الحوادث الماضية تقوم على قدرتها في صناعة المستقبل على طريقة قياس الشاهد على الغائب، فإن الجانب المتعلق من مذكرات أولبرايت في الشرق الأوسط ومسارات التسوية السلمية كتبت بعناية، من يرغب أن تكون مذكراته مفيدة، في توجيه الحوادث الراهنة.
هذا بالنسبة إلى أولبرايت أمّا بالنسبة إلى المتلقي العربي، من قارئ الصحف، إلى أهل الإعلام، إلى أصحاب القرار السياسي فإن استذكار اللحظات التاريخية الصعبة لا يمكن أن يسمح بعدم الالتفات إلى حقيقة صريحة تتعلق بكتّاب المذكرات من رجال السياسة وصنّاع القرار، مفادها أن شروط من نوع الموضوعية والحياد الإيجابي، والنزاهة، وتلك شروطا يجب توافرها في الشهادة على الفترات التاريخية، صعبة التحقق في مذكرات من هذا النوع، لابدّ وأن تخضع لعمليات تنقيح، تخدم المصلحة السياسية والإعلامية المتوخاة منها. ولدى السيدة أولبرايت من الأسباب ما يجعلها وهي تستبطن أو تستذكر الحوادث السابقة؛ أن تخضع هذه العملية لاقتراحات المستشارين في خدمة الوظيفة السياسية منها.
يدخل هذا النوع من الكتابة السياسية، فيما يمكن تسميته بالتاريخ الأصلي. لأن صاحبة المذكرات تدلي بأقوالها، وشهادتها على وقائع لا تزال حيّة ويشاركها فيها شهود آخرون، كما يمكن العودة إلى مجموعة من الوثائق بالمعنى الحصري للوثيقة التاريخية، لتكون بدورها شاهدة على الحوادث، وكذلك إلى ما يمكن أن يرويه مشاركون أساسيون، لايزالون في السلطة، أو خارجها. وهذا الأمر يقيد عملية الاستبطان والاستذكار، لكنه لا يمنحها صفة العلمية التاريخية والموضوعية مقابل صناعة الخيال وتدخل عناصر الذاتية في الكتابة، ومع كل هذه الصعوبات التي تواجه التأريخ الأصلي، أو الشهادة العيانية (من شاهد عيان) فإنه تبقى لهذا النوع من المذكرات أهمية لاحقة ووظيفة سياسية راهنة.
وعليه يمكن للمتلقي العربي، من قارئ الصحف، إلى السياسي الممارس أن يكون بدوره شاهدا، وأن يعيد حبك رواية الحوادث، مستفيدا من مذكرات السيدة أولبرايت كشاهد عيان عليها. ثم إن يستبطن بدوره، مستذكرا الوقائع التاريخية، ليعيد صياغتها في ذاكرته الراهنة ويعطيها وظيفة سياسية تكون بدورها مساعدة على فهم ما يجري حولنا من حوادث. إن القياس في هذا المحل، يشبه أن يكون قياسا منصوص العلة، بمعنى أنه شهادة عيانيّة متصلة على أحداث واقعية، لم تنقطع فيها الصلة، ولم يمر عليها الزمان الكافي لتصبح جزءا من الماضي، لذلك كانت اللغات اللاتينية والفرنسية منها على وجه الخصوص، تستخدم صيغة الماضي القريب رواية حوادث من هذا النوع.
تروي السيدة أولبرايت وقائع المفاوضات العربية الإسرائيلية على المسارين السوري والفلسطيني، في محادثات أدارها الرئيس السابق بيل كلينتون، في شيرزتاون وجنيف وكامب ديفيد، وتختار عناوين من نوع «مسعى عقيم» وتختار صحيفة «الحياة»، التي نشرت حلقات متتالية من مذكرات الوزيرة الأميركية، عناوين منها: الأسد لم يكف عن إبلاغنا أنه اعتاد السباحة في بحيرة طبريا في شبابه، وباراك اعتقد بقوة أن الرئيس السوري سيقبل باسترداد 99 في المئة من الجولان ورفض الأسد في جنيف قبول سيادة «إسرائيل» على شبر من الأراضي السورية فيما تمسك الفلسطينيون في كامب ديفيد بحق اللاجئين في العودة بموجب القانون الدولي، وتكتم باراك على تفاصيل عرضه للفلسطينيين، فيما لو قبل الفلسطينيون أفكار الرئيس كلينتون لكانت دولتهم عضوا في الأمم المتحدة. لم تنسَ أولبرايت التذكر أن البحث في المسائل النهائية كمصير القدس وقضية اللاجئين تمثل «صندوق الشر» لصعوبتها، وأن الفلسطينيين لا يمكن أن يقبلوا أي ترتيب يعطي الإسرائيليين حتى أشد أنواع السيادة محدودية على الحرم الشريف، ولا تبخل في رسم دور الشخصيات، فتذكر برغبة الرئيس كلينتون بالسلام، وقوله متنهدا لا أحب ان أفشل في هذا الأمر، «وبشجاعة باراك» وانتفاضة عرفات » أنا لست عبدا أنا ياسر عرفات» وصرامة الأسد وحنكته وتمسكه بالحقوق الكاملة في الجولان السوري المحتل، وكذلك ذكاء الشرع وعدم ثقته بالإسرائيليين وشكواه من خداعهم. إضافة إلى دورها كمفاوض قدير، وإلى دور الموظفين في الخارجية الأميركية، ووزارة الدفاع والبيت الأبيض، وإلى صعوبة «السلام» وضرورته لأن الجميع سيعودون، بعد زمان من الحروب إلى الجغرافية والدمغرافية نفسها وإلى الموضوعات ذاتها ولا تبدي إرتياحا لحكومة شارون، لكنها تقر بأن «إسرائيل» تحتاج إلى الأمن، وأن السلام في «الشرق الأوسط»، تراجع سنوات إلى الوراء، لكنه قدر لاحق، ما عدا هذه الإضافات، التي تشبه عملية استبطان للأحداث فإن رواية الوقائع تشبه إعادة توثيق الوقائع التاريخية أو عرض مسرحية سبق للجمهور أن حضر حوادث فصولها مراتٍ عدة.
لم تعد الحوادث السياسية في العالم سرا، لقد أضحت اللعبة السياسية أن تكون لعبة مكشوفة لكن روايتها، أو طريقة سرد وقائعها تكشف عن السرّ الكامن في وظيفتها السياسية الراهنة.
ما الذي تريد أن تقوله أولبرايت في مذكراتها؟
إن قراءة متأنية للفصول المتعلقة بالمفاوضات تكشف عن رغبة في إيصال رسالة مفادها الآتي:
- إن الإدارة الأميركية ممثلة بفترة حكم كلينتون داعية سلام في «الشرق الأوسط»، وبذلت جهدا لتحقيق هذا «المسعى العقيم».
- إن العرب يخسرون برفض عروض » السلام» المتتالية، ولم يستفيدوا من الفرص التي قدمتها إدارة كلينتون، لأنهم يتصرفون على قاعدة «كل شيء أو لا شيء».
- الحروب والانتفاضات لا تحقق شيئا سوى الخسائر الفادحة، وحدها المفاوضات يمكن أن تحوّل المسعى العقيم إلى مسعى ينجب تسوية سياسية تصفها بالتاريخية.
- في مسألة فن التفاوض السياسي ترغب السيدة أولبرايت التأثير على الموقف العربي، لدفعه إلى تنازلات جوهرية في أية مفاوضات لاحقة لعدم تكرار تجربة الفرص الضائعة، في عهد كلينتون.
- تحاول أن تجعل من المفاوضات قضية جوهرية بحد ذاتها، بصرف النظر عن الظروف السياسية، والاستراتيجية المحيطة بها، كذلك عن عدالة القضايا التي تتناولها وعن قدسيتها في آن واحد.
- تذهب إلى اعتبار المستقبل محكوم بوقائع الماضي، وكأن حركة الزمان، والمتغيرات، لا تنال من عملية التفاوض نفسها، لأنها ترى فيها «جوهر مستقل» وفق تعبير الفلاسفة.
- تنآى بنفسها عن أي نقد صريح للمفاوض «الإسرائيلي» وتقدّم نموذجه الأعلى في شخصية باراك صاحب الأوسمة الحربية، الذي تشبه عيناه السودان لون الفحم.
من يغفل العرب عن الوظيفة السياسة. لهذه الأهداف وقد نحظى في المستقبل برواية عربية لوقائع المفاوضات، تكشف لنا عن استبطان واستذكار مختلف، لكننا وفي خلاصة قراءة مذكرات الوزيرة الأميركية، نكشف بطريقة سهلة أن رواية مذكرات المفاوضات، تكشف عن صحة توصيف هذا » الجوهر الخالص» باعتباره «مسعى عقيم» على الحقيقة
العدد 437 - الأحد 16 نوفمبر 2003م الموافق 21 رمضان 1424هـ