إثر انهيار النظام الدولي الذي تشكّل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، برزت طروحات عدة حول مستقبل السياسة الدولية الجديدة، وجرى الحديث عن ملامح مختلفة، مقارنة بالنظام الذي تأسس إثر نهاية الحرب الكونية الأولى.
قيل إن عماد السياسة الجديدة سيكون التوافق بين الدول الكبرى، بشقيها الغربي والشرقي، خصوصاً بعد سقوط النظام الشيوعي، بأبعاده الأيديولوجية المستندة إلى هيمنة الدولة على الفعاليات الاقتصادية. وفي هذا السياق، جرى التنبؤ بأن تطغى البراغماتية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأن تتراجع النزعات العقائدية والجذرية.
أغفلت هذه القراءة، أن الحرب الباردة تمت بين نهجين اقتصاديين وعقيدتين سياسيتين، هما الرأسمالية، باقتصادها الحر المنفلت، والعابر للحدود؛ والشيوعية بنظامها الاقتصادي، المعتمد على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وأن الذي سقط هو طرف واحد فقط في معادلة الصراع.
إن الذي حدث لم يكن نهايةً للأيديولوجية، وإنما تغوّل طرف منها، على مجريات السياسة الدولية، ومحاولة تعميم النموذج الرأسمالي على العالم بأسره.
بعد نهاية حرب الخليج الثانية ألقى الرئيس الأميركي جورج بوش خطاباً تاريخياً، قال فيه إن مرحلة جديدة في السياسة الدولية قد بدأت بانتصار الديمقراطية على الأنظمة الشمولية. لقد كان القرن العشرين أميركياً بامتياز، وينبغي العمل على أن يكون القرن الحادي والعشرين أميركياً بامتياز أيضاً. وفي خطابه المذكور تنبأ بأن الحروب القادمة لن يكون مجالها استخدام السلاح، بل الاقتصاد والثقافة، وأنهما سيغدوان مجال التنافس بين البلدان المتقدمة.
لكن صاموئيل هانتنغتون، خالفه الرأي في ذلك وتحدّث عن صراع حضارات، مؤكداً أن الصراع القادم سيكون بين العالم المسيحي المتحضر الملتزم بالقيم الديمقراطية، والإسلام الرافض لقيم الحضارة، مستنداً في قراءته هذه على رؤية عنصرية. فمن وجهة نظره، فإن قيم الغرب هي أرقى وأفضل ما وصلت إليه الإنسانية من نظم سياسية، قوامها العلاقات التعاقدية والفصل بين السلطات. وإن ثقافة المسلمين، ومستوى نموهم الحضاري لا يؤهلهم لقبول حضارة الغرب.
لقد أكدت السنوات اللاحقة التي أعقبت سقوط الحرب الباردة، خطأ القراءتين. فالحروب بالسيطرة على العالم من قبل الغرب، وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية، لم تضع أوزارها، والقرن الحادي والعشرون ليس كما أراد له الرئيس بوش، قرناً أميركياً بامتياز. توضح بعد إعصار 11 سبتمبر المزلزل العام 2001، أن حقبة جديدة من التوحّش الأميركي ستأخذ مكانها في هذا الجزء من العالم، فكان احتلال أفغانستان والعراق، ومصرع مئات الآلاف، وتشرد ملايين البشر من الأفغانيين والعراقيين، بفعل حروب الاحتلال. والإرهاب الذي كان استئصاله هو الهدف المعلن من احتلال أفغانستان والعراق، تضاعف مرات عدة، وأحياناً بدعم أميركي معلن، كما هو الحال في ليبيا وفي أجزاء أخرى من العالم.
وتأكّد أيضاً، أن بوابات اقتصادية هائلة قد فتحت، ولكن ليس لمصلحة صانع القرار الأميركي، بل للتنين الصيني، وللدب القطبي، وللحضارة الهندوسية ولجنوب إفريقيا والبرازيل، ولتتكون من خلال صعود هذه الدول الاقتصادي الكاسح، منظومة اقتصادية عالمية جديدة تحت مظلة «بريكس».
تأكد أن الأميركيين ليسوا لاعبين مهرة في التنافس الاقتصادي الذي يحيد فيه السلاح، رغم أنهم باعتراف الجميع الأقوى اقتصادياً فوق كوكبنا الأرضي. لقد أثبت الشرق أنه أكثر قوةً ومهارةً حين يتعلق الأمر بالاقتصاد. ولم يكن ذلك لتراجع أو تراخٍ في سياسة النمو الاقتصادي الأميركي، أو تقصير بالدور، ولكنه الواقع الموضوعي والتاريخي، الذي مكّن الأميركيين في السابق من الوصول إلى الأصوات العالمية، بعد الحرب العالمية الأولى، هو ذاته الذي يجعل الصين تقتحم بقوة بوابات العالم ومدنه ببضائعها، وبطريقة ليس لها نظير بالتاريخ.
في الوطن العربي الكبير، أيضاً محاولات للتململ والانعتاق، ورغبة للخروج من التاريخ إلى العصر الحديث، ولنكون عنصراً فاعلاً في الحضارة الإنسانية. هذا الطموح يصطدم بمشاريع البلقنة والتفتيت وتحفيز النزعات الطائفية والمذهبية .
والصراع في الوطن العربي الآن ليس بين طوائف ومذاهب، كما يوصفه الغرب، بل بين قوى التخلف، ومن خلفها تقف المشاريع الاستعمارية التي رسمت الخرائط، وحدّدت سبل تنفيذها وفرضها بالقوة، تحت شعار الشرق الأوسط الكبير تارةً، والشرق الأوسط الجديد تارةً أخرى.
إن الصراع المحتدم الآن، ليس بين الفوضى الخلاقة ومخاض الولادة الجديدة. إنه صراع بين قوى حية تتوق لصياغة مستقبلها، عبر استقلال وطني، وتنمية مستقلة، وتجدد حضاري؛ وبين قوى عاتية، تقف معها وفي صفها عناصر إرهابية متطرفة، تستحضر مقولاتها من الوهم ومن المجهول، باسم الدين الإسلامي الحنيف وهي أبعد ما تكون عنه. إنها تدعم من قبل القوى ذاتها التي عملت لأكثر من قرن من الزمن على إلحاق الهزائم المتكررة بنا، وكان ضياع فلسطين هو أحد تجليات اعتداءاتها الصارخة.
ما يدور في الوطن العربي الآن لا يمكن وضعه في خانة صراع الحضارات، لأن ما أنجزته الحضارة العربية في عنفوانها وأوج عطائها لم يشِ بذلك. إنه صراع إرادات بين قوى عاتية تضمر الشر للأمة، وأمة حزمت أمرها وقرّرت كسر قيودها بعزيمة لا تكل، والدخول إلى التاريخ من بواباته الواسعة، يسعفها في ذلك أن عناصر القوى الدولية الجديدة ليست حكراً على أحد، وأن العالم يتجه مجدّداً إلى تعددية قطبية وإلى تكافؤ في العلاقات الدولية.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4367 - الخميس 21 أغسطس 2014م الموافق 25 شوال 1435هـ