للجمهور سطوة وسحْر لا ينجو منهما إلا الراسخون في قناعاتهم ومعرفتهم وأهدافهم. إلا الذين لا يبتغون غير إصلاح واقع ذلك الجمهور، وعدم بيعه السمك في البحر، والتعاطي مع مشكلاته بواقعية ومنهجية، واقتراح الحلول، وليس فرضها؛ أو توهّمها؛ وأحياناً استساغة ارتجالها.
في الارتجال خطورة وضياع وربما تعميق للمشكلات، وحتى تأبيدها. الحلول التي يجب أن تكون نابعةً من واقع وحقيقة تلك المشكلات. الحلول التي أيضاً لا تفرز بعد زمن مشكلات تتراكم فوق المشكلات السابقة.
الجمهور يدير الخطاب أحياناً في صورة أو أخرى. يديره من حيث الالتفات إلى تفاصيل ما يريده، وتجنّب ما يبعث على تذمّره وغضبه. يحدث ذلك كثيراً، وخصوصاً بالنسبة إلى الذين يتصدّون لمشكلاته وقضاياه. قليلون أولئك الذين لا يُعيرون اهتماماً لما يريده ذلك الجمهور بكل حذافيره. كأن بعض الذين يتسلّمون المنصة وأمام الجمهور يقدّمون قائمة برغباته؛ ولا يهم بعد ذلك إلى أين ستفضي؛ وكيف سيكون مؤدّاها.
مع سطوة وسحر المنصّة، وطبعاً بوجود جمهور، يترجّل كثيرون الحلول، ليس من واقع الانفعال أو طبيعة اللحظة، والزمن الراهن؛ وخصوصاً إذا ضج بالمآزق، وانفصلت النُخب عن واقع الجمهور؛ أو لم تعِ أن الانقياد إلى الجمهور في اللحظات المفصلية؛ وبشكل اعتباطي، هو «بيت الداء»!
ربما لا تصلح مقولة ماكس لوكادو «على من يريد قيادة فرقة موسيقية أن يدير ظهره للجمهور» لتكون منهجاً وخريطة طريق في التعاطي مع الجمهور على اختلاف وعيه وتباين رؤاه ورغباته وطموحاته؛ لكن شيئاً من ذلك نادر الحدوث؛ ويصل في وقتٍ من الأوقات إلى ما يشبه الفخ الذي يكون منه وفيه نهاية النُخب؛ والذين يتصدّون لقضايا الجمهور؛ فلا هم أداروا تلك الفرقة باقتدار؛ ولم يغْنِهم ذلك الالتفات بالوقوف على الحلول في جانبها العملي والواقعي.
وبالعودة إلى سحر المنصة وسطوتها. سحر وسطوة الجمهور ذلك الذي يترك أثره على توجهات الخطاب؛ وخلخلة الثابت منه وتثبيت المتحرك؛ وضمن جغرافياتنا التي نعرف؛ البلاغة تظل هي الفاصل لدى كثيرين من ذلك الجمهور! من قال إن البلاغة دائماً تمتلك الحلول أو المدخل إلى تلك الحلول؟ في بعض البلاغة أحياناً وفي اللحظات الفاصلة والفارقة كمٌّ مهول من الخدَر، والنوم على الواقع بكل ما يكتنفه من علل وأمراض ومآزق. البلاغة لم ولن تدّعي أن لديها المتعدّد من الحلول.
يغادر أحدهم المنصة وقد أشبع الجمهور بِطاقة من تلك البلاغة. يغادر الجمهور المكان. في الشارع وفي البيت وحتى على الرصيف، وفي تعاطيه مع الجهات والأطراف المنتجة لتلك المشكلات، لا يجد شيئاً تغيّر. الواقع هو هو بقبحه والتمييز، والإقصاء وتعميق المظالم. السيدة البلاغة لا أثر لها على كل ذلك. لم يندم الذي انتهك وتجاوز. لم يتحول رجل «الأمن» الذي نعرف كصديق! لم تتحوّل مراكز الاستجواب إلى حوار مكاشفة. لم يتحوّل الموظف الذي سيتجهّم لمجرد قراءة اسمك الثلاثي إلى «أخ لم تلده أمك»! ومنتج البلاغة تلك والمتصدي للملفت والجديد فيها؛ سيأوي إلى النوم وقد استراح «ضميره» بتأدية المهمة على أكمل وجه: أشبع الجمهور مما لذ وطاب مما اقتبس من تلك البلاغة؛ أو تلك التي أُلهم إياها بفعل سطوة وسحر ذلك الجمهور! كثير من البلاء بيته المنصات. كثير من الداء بفعل الإدمان الذي يتعاطاه بعض الجمهور أيضاً بفعل السيدة البلاغة! والحلول: ستكون هناك بتشديد اللام وحذف النقطة من «الغيْن»!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4366 - الأربعاء 20 أغسطس 2014م الموافق 24 شوال 1435هـ
المتمردة نعم
حالة اندماج مع مقالات الاستاذ الجمري ..مقال مبطن نرجو ان تتعظ الجمعيات من هذا المقال ..الجمهور يدير الخطاب والجمهور من لديه حلول الازمات لا الحلول الفردية القائمة على الدراما ..الانجاب مثالا .سلمت يداك