واسع هو المدى الذي يصوّره المؤرخ والأديب البحريني المجهول القدر والمكانة، محمد علي التاجر (ت 1967) عن البحرين في عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي في كتابه «منتظم الدرين»، حيث لا كراهية ولا تعصب ديني، ولا تكفير يجوب الشوارع ويترصد الناس، ولا فضائيات بذيئة اللسان، ولا منابر شتّامة نمامة تحاصر المصلين وتخدش ورع المتضرعين في بيوت الله.
بلد كريم، وناس طيبون، مزارعون يصاحبون المحراث سنين طويلة ويستظلون بسعف النخيل ويأنسون بالأنعام في بساتينهم الظليلة في سماحة واطمئنان. قوافل بحرية تزدحم بها المرافيء وسفن تذهب وأخرى تجيء، بساطة وعفوية وحب كثير، وتسامح أكثر.
قضيتُ مع «منتظم الدرين» بضعة أيام أبحث عن صورة البحرين لعلي أعثر عليها، وجدتها وقد حال بيني وبينها جدار السنين، وقد مازجت هذه السنين كدر السياسة فصارت قروناً ونأت عنا وبعدت أكثر.
الكتاب خصصه هذا العبقري الجسور للحديث عن «أعيان الإحساء والقطيف والبحرين»، وفي حديثه عن الأعيان على مدى ثلاثة مجلدات أخرجها الصديق الشيخ ضياء آل سنبيل عن مؤسسة طيبة لإحياء التراث، ترصّد التاجر السيرة الجمعية لمجتمع الإقليم بأسره، وسرد حكايات من المنامة وتوبلي والمحرق وجدحفص وسترة والغريفة والدراز والمنامة والنعيم، وتعقّب البحرينيين أينما كانوا في موانيء فارس وسواحل بوشهر وضواحي البصرة وبساتين المحمرة وعند بيوتها الطينية وأقاصي الهند وأطرافها البعيدة.
تجد في الكتاب كل القرى، وبعض هذه القرى تخلت إلى الأبد عن أسمائها القديمة. تعثر في قلم التاجر على كل المدن، وتقابل أتباع المذاهب الإسلامية على تنوعها، عبدالله الزايد إلى جوار إبراهيم العريض، بن جامع الحنبلي المحرقي إلى جوار بن السيد محمد الغريفي، وبن خليفة المالكي إلى جانب بن سيد سلمان القاروني.
سردٌ جميلٌ ومشوّقٌ يطوف بك بين الناس وفي المجتمع والأدب والشعر والدين والحياة. يروي الطرفة ويحكي القصة، وينشد الشعر وينقل الفرائد الأدبية، ويتحدّث عن نفائس المخطوطات وآثار النساخين وأجود ما خطت أناملهم.
الممدوحون في الكتاب كثيرون، وهو يكيل المديح لفضلاء السنة قبل أجلاء الشيعة بمنهجية منحازة إلى الحقيقة دون غيرها، وإن كانت حقيقة ناقصة. ولا عتب فكتبه كلها مسوّدات كتب، رحل عنها عن الدنيا وهي لم تبيّض بعد فظلّت أربعة عقود حبيسة الأدراج!
كتب التاجر كتابه بمحبة، لذلك جاء تاريخ البحرين في المنتظم وكأنه ديوان شعر كتبه عاشق يتغزل في حبيبة.
وقد فاجأني ما كتبه علاّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر (ت 2000) عندما زار البحرين والتقى بعلي التاجر (ت 2006) واطلع على مكتبة والده الحاج محمد علي. يقول الجاسر: «وكان أبو علي محمد علي التاجر من العلماء، ولديه مكتبة تضم كثيراً من المؤلفات وفيها بعض المخطوطات، وله تأليف في تراجم علماء البحرين، أطلعني عليه حين زرته مخطوطاً، ولما حدثت ابنه علياً عن سروري بما شاهدتُ في مكتبة والده، قال: يجب أن تحرق جميعها! فاستوضحتُ: وما الذي يبقى؟ أجاب: القرآن الكريم، وديوان المتنبي، وكتاب لأحمد صبري شويمان»! (المصدر: «إطلالة على العالم الفسيح»، 2 / 371). وربما يكون هذا الرأي السلبي لعلي التاجر في تراث والده هو ما حمله على عدم الاكتراث بهذا التراث والعناية به ونشره.
الحق أن التاجر تعرض للظلامة مرتين، الأولى لأن الجهود التي بذلها في العناية بتاريخ البحرين لم تحصل على الاهتمام والرعاية من عائلته التي جهدت في إخفاء تراثه، بل هناك من تنكر لها إلى حدّ الرغبة في إتلاف وحرق هذا التراث! وفي الأخرى ظُلم التاجر من زملائه الباحثين والمهتمين بتاريخ وتراث البحرين، ويكفي أن نشير إلى حقيقة أن كلا الكتابين «عقود اللآل» و«منتظم الدرين»، اللذين طُبعا بمبادرات وجهود شبه فردية بنواقص وثغرات تبدأ بتحريف العنوان وقد لا تقف عنده، برغم إيماني بأهمية إخراجهما وإتاحتهما للباحثين وعشاق المعرفة التاريخية وإن بنواقصهما الحالية، والذي أدريه أن مؤسسة طيبة تعكف حالياً على إعادة تحقيق كتاب المنتظم وإخراجه وتلافي ثغرات الطبعة الأولى.
أتمنى أن لا أكون متشائماً إلى درجة الإقرار بأن سوء طالع التاجر وحظه العاثر، يتمثل تحديداً في عنايته بتاريخ بلدٍ لا يحترم تاريخه، وهذا على أي حال ثمن التورط بالانتماء لإرث وتاريخ قوم ضيّعوا تاريخهم ولم يحترموا حاضرهم فضاعوا وأضاعوا.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4364 - الإثنين 18 أغسطس 2014م الموافق 22 شوال 1435هـ
صدقت
هذا كلام صحيح.. أوجزت وأصبت
لاغرابة
واي تكريم وعناية ترتجي من بلد فضل الاجنبي على المواطن
الكتابان يدسان السم في العسل
هذان الكتابان يدسان السم في العسل
كيف ؟
كيف يدسان السمن في العسل .. أوضح؟
اتفق معك
اتفق معك
تنويه
مقال ممتاز استاذ وسام . بالنسبة لكتاب " منتظم الدرين في في ادب البحرين " حسبما اعرف ان مخطوطته خمسة مجلدات بينما مطبوعته ثلاثة مجلدات كما ذكرت فهل دمجت بقية المجلدات ، اوضاع مجلدان وبقي ثلاثة . الموضوع ربما بحاجة الى شيء من التوضيح . مع تحياتي - اخوكم / يوسف مكي
صحيح
مرحباً استاذي يوسف .. كلامك صحيح بخصوص حجم المخطوط.. ولكن المخطوط أثناء الطباعة ينكمش.. في الواقع الكتاب نشر كاملاً ولا نواقص في النسخة الوحيدة المطبوعة بل هناك زيادات لم تتضمنها بعض النسخ.. ولكن يعاب ربما على العمل أنه لم يحقق تحقيقاً لائقا
الكرسي ومايسوي
من اجل الكراسي مو مهم الناس تضرب ببعضها والناس تسب بعضها والناس تكره بعضها
المهم ياعزيزي الكرسي هذا هو ملخص الكلام