تشهد سهول شمال العراق إعادة رسم خريطة المنطقة إذ يعمل المتشددون السنة من رجال تنظيم الدولة الاسلامية على تطهير المناطق الريفية من الأقليات الدينية والعرقية التي تعايشت على مدى مئات السنين.
ونزح أكثر من نصف مليون شخص عن بيوتهم في مختلف أنحاء العراق منذ يونيو/ حزيران الماضي عندما سقطت مدينة الموصل، أكبر مدن شمال العراق، في أيدي المتشددين الذين استهدفوا طوائف الشيعة التركمان والشبك واليزيديين وكذلك المسيحيين.
وحتى قبل سقوط الموصل لم يكن اليزيديون يجرأون على دخول المدينة التي ظلت مركزاً رئيسياً لحركة التمرد السني منذ العام 2003. ويتبع اليزيديون ديانة توحيدية قديمة تنطوي على عناصر من عبادة الطبيعة ويسميهم الإسلاميون المتشددون عبدة الشيطان.
والآن فإن حملة التطهير التي شنتها الدولة الاسلامية أخلت الأراضي الزراعية والقرى في محيط محافظة نينوى وما يتجاوزها من سكانها من الأقليات التي سكنت المنطقة منذ عهد بعيد، ليصبح شمال البلاد مقسماً على أسس طائفية وعرقية.
وأصبح جانب كبير من الشمال مقسماً بين الدولة الاسلامية والأكراد الذين وسعوا نطاق منطقتهم التي تتمتع بالحكم الذاتي بنسبة تصل إلى 40 في المئة مع انهيار وجود الحكومة المركزية.
وأصبحت الأقليات تجد نفسها مرغمةً على اختيار الجانب الذي تنتمي له من العراق، ما يعجل بتقسيم البلاد على أرض الواقع وتغيير شكل التركيبة السكانية ربما على نحو لا يمكن إصلاحه.
وبالنسبة لكثير من الشيعة الذين يمثلون الأغلبية في العراق عموماً، لكن السنة يفوقونهم عدداً في شمال البلاد، أصبح الملاذ الذي لا خلاف عليه هو الجنوب حيث يمثلون الطائفة الغالبة.
وكان مقاتلو الدولة الاسلامية اجتاحوا تلعفر الشهر الماضي وطردوا التركمان الشيعة. وفي مخيم بمخزن لم تعد شركة للبناء تستخدمه على أطراف مدينة أربيل ينتظر آلاف التركمان الذين تربطهم صلات ثقافية ولغوية وثيقة بتركيا، دورهم لنقلهم بحافلات إلى المطار ومنه إلى بغداد ومدينتي النجف وكربلاء الشيعيتين.
وقد استأجرت الحكومة العراقية هذه الطائرات لأن أغلب الطرق البرية المؤدية إلى الجنوب من إقليم كردستان تمر عبر الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون الذين أعلنوا قيام دولة الخلافة على جانبي الحدود العراقية السورية.
وتم نقل ما يصل إلى 15 ألف من التركمان الشيعة جنوباً إما عن طريق الجو أو في قوافل برية ترافقها قوات لحمايتها عبر الشريط الحدودي الوحيد الذي يربط الأكراد بقوات الحكومة الاتحادية ويبلغ 15 كيلومتراً فقط من الحدود التي يبلغ طولها ألف كيلومتر.
وفي مطار أربيل ينتظر التركمان الشيعة الصعود إلى الطائرة وهم يحملون الأمتعة القليلة التي استطاعوا أخذها عند فرارهم. وقال رجل يبلغ من العمر 35 عاماً، إن معظم أفراد طائفته لن يعودوا أبداً. وأضاف «سيتم تفريغ الشمال من الشيعة وتفريغ الجنوب من السنة وسيؤدي ذلك إلى تقسيم العراق. تلك هي الخريطة الجديدة للشرق الأوسط.»
الصدع العرقي
ويحدث التغيير عبر قرى مثل قرية عمركان التي كانت حتى عهد قريب موطناً للسنة والشيعة من أقلية الشبك الصغيرة التي تعيش في مثلث يحده نهرا دجلة والزاب الكبير إلى الشرق من الموصل.
وبخلاف الموصل سيطر المتشددون على نحو 20 مدينة وقرية تعيش فيها أقليات في نينوى، بالإضافة إلى مدينة في محافظة كركوك وعدة مدن أخرى حول مدينة طوز خرماتو.
وعندما سقطت الموصل في العاشر من يونيو/ حزيران انسحب الجنود العراقيون من المنطقة حول عمركان واستولى عليها المقاتلون المتشددون. وفي البداية طمأن المتشددون السكان الشيعة في عمركان وقالوا لهم إنهم لا ينوون إلحاق الأذى بهم. لكن في فجر أحد الأيام أوائل الشهر الجاري استيقظ هؤلاء ليجدوا القرية محاصرة، وإهانات طائفية مكتوبة على جدرانهم.
وتم جمع الشبان من الشيعة ونقلوا بعيداً. أما السنة فسمح لهم بالبقاء بينما فر من استطاع من نساء الشيعة وأطفالهم ورجالهم إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات البشمركة الكردية التي تقدمت في عمق محافظة نينوى.
والآن تعمل الجرافات على رسم مواقع جديدة على الأرض وتحفر خندقاً عبر حقول القمح بما يجسد أعمق خطوط الصدع العرقي في العراق الفاصلة بين العرب والأكراد.
وعمركان واحدة من 11 قرية من قرى الشبك على الجانب العربي من هذا الخط تقع كلها تحت سيطرة المتشددين السنة. وقد طلب زعماء طائفة الشبك التي يتبع بعض أفرادها المذهب السني من حكومة إقليم كردستان طرد «داعش» وضمهم إلى الإقليم.
ويعتزم الأكراد إضفاء صبغة رسمية على الحقائق الجديدة على أرض الواقع في استفتاء لتقرير ما إذا كانت هذه المناطق ستنضم إليهم أم تبقى جزءًا من العراق العربي.
وحتى الآن تباينت الولاءات في المنطقة. فبعض الشبك يتقاضون مرتباتهم من بغداد بينما يتلقى آخرون مرتباتهم من إقليم كردستان. وفي الانتخابات أصبحت أصواتهم مقسمة بين أحزاب العرب الشيعة والأحزاب الكردية التي تربطهم بها روابط تاريخية وثيقة.
وقال رجل من عمركان كان 11 فرداً من أقاربه من بين المختطفين: «نحن مع الجيش العراقي لكننا في الوقت نفسه مع الأكراد. نريدهم أن يتحدوا حتى يمكنهم صد هؤلاء المجرمين».
لكن في الوقت الحالي حتى أصوات الشبك وأصوات الأقليات الأخرى التي كانت تعارض التوسع الكردي أصبحت ترى أن هذا الوضع أفضل من البديل الآخر المتمثل في حكم الدولة الاسلامية. فعندما هدد المتشددون باقتحام قريتين في نينوى هذا الشهر رفع سكانهما من الشبك من السنة والشيعة على حد سواء السلاح في صفوف قوات البشمركة للدفاع عنهما.
وقال ناظر مدرسة هرب من قرية شمسيات الواقعة جنوبي الموصل بعد أن قتل المتشددون أخاه وأربعة من التركمان الشيعة، إنه يفضل البقاء في كردستان على الذهاب جنوباً رغم ديانته.
وقال الرجل الذي تزين صورة للإمام علي حائط المنزل الذي يعيش فيه الآن في قرية إلى الجنوب الشرقي من الموصل: «صحيح أنا شيعي لكن ديانتي بيني وبين الله. أما على الأرض فالأكراد هم الذين يحموننا. إقليم كردستان أثبت أنه موجود. أما الحكومة المركزية فليست موجودة».
أسلم أو مت
كذلك فإن مستقبل الطائفة المسيحية القديمة في الموصل أصبح قاتماً بعد أن حددت الدولة الاسلامية مهلةً لأفرادها كي يسلموا أو يغادروا المدينة أو يواجهوا الموت.
وانتقل كل من استطاعوا -فيما عدا المرضى- إلى إقليم كردستان أو إلى جيوب مسيحية تحميها قوات البشمركة في سهول نينوى، متبعين خطى من سبقوهم في السنوات السابقة، إذ رحل كثيرون بالفعل منذ سنوات.
وقال مدرس الرياضيات سراب حازم الصباغ (39 عاماً) الذي هرب إلى مدينة بعشيقة الخاضعة للسيطرة الكردية قبل انتهاء المهلة التي حددتها «داعش» في مطلع الأسبوع: «لم أعد أحلم بالعودة للموصل». وأضاف: «إذا سنحت لي الفرصة سأعود وأبيع ممتلكاتي حتى يمكنني مغادرة العراق والسفر للخارج سواء الصومال أو السودان. أي مكان آخر أفضل من هنا». وأصبحت أقليات المنطقة تواجه الآن خيارات مستحيلة.
وتروي عراقية تجلس على حشية رقيقة داخل خيمة بمخيم للاجئين على الطريق الواصل بين الموصل وأربيل، قصة البحث عن ابنها ذي الثمانية عشر عاماً الذي اختفى في قرية جوجالي قبل عدة أسابيع. وتحكي كيف توسلت لرجلٍ ملتحٍ قيل لها إنه أمير المؤمنين في مكتب حكومي سابق استولت عليه «داعش» في الموصل طلباً لمعلومات عن ابنها. وكتب الرجل اسم ابنها محمود على ورقة وقال لها إنه سيعود للبيت في غضون ثلاثة أيام. وبعد 72 ساعة اكتشف أحد الأقارب جثة محمود في الجبانة المحلية، وقد أصابها من التشوه ما يتعذر معه التعرف عليه.
وقالت المرأة إنها دفنت ابنها الذي تم التعرف عليه من لون سرواله، ثم سارعت بالهرب وأصبحت تقيم في الشمال لكنها تأمل أن تسافر إلى الجنوب. وقال أحد أقاربها: «مصيرنا غير معروف. نحن شعب بلا مصير».
العدد 4345 - الأربعاء 30 يوليو 2014م الموافق 03 شوال 1435هـ