لعل واحداً من أهم الأخبار الواردة من العراق خلال الأيام القليلة الماضية، والتي تنطوي على دلالات سياسية وإنسانية وتكتسب درجة من الأهمية، خبر مقتل الطبيب السعودي فيصل شامان العنزي إثر غارة عراقية شنت على عيادته الخاصة التي يعالج فيها كبار القادة الداعشيين في الموصل.
وبحسب المعطيات المستفادة من قناة «العربية» وصحيفة «الحياة» السعوديتين، فإن الشاب فيصل (25 عاماً) فاجأ أهله بسلوكه غير الطبيعي أثناء عودته إلى الوطن قبل ستة شهور والتي انتهت بمغادرته إلى البحرين، والتي أقام فيها على ما يبدو فترة قبل أن يتركها إلى تركيا فسورية، منضماً إلى «جبهة النصرة» ثم «داعش»، حتى لقي مصرعه مؤخراً في غزوتها الأخيرة للموصل.
ويستخلص أيضاً من إفادة شقيقه الأكبر أحمد أن الوالد ضحى بالغالي والنفيس من أجل ابتعاث ابنه القتيل إلى الأردن لدراسة الطب، وأنه أنهى دراسة الامتياز في أحد المستشفيات الحكومية بعمّان، وهناك تلقفه دعاة الجماعات الإرهابية المقاتلة في سورية لإقناعه بالجهاد في صفوفها. وكان أمل والده أن يعود إلى وطنه مسلحاً بالعلم لبناء مستقبله وخدمة شعبه وبلاده. لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، فالأمل الذي كان يراود الوالد وكاد قاب قوسين أو أدنى أن يتحقق، تحول إلى صدمة وخيبة أمل شديدتين إثر سماعه خبر مقتله في العراق.
وربما فيصل العنزي ليس سوى واحد من عشرات الأطباء السعوديين والعرب الذين ضلوا البوصلة وتمكنت القاعدة وأضرابها كـ «داعش» من إيقاعهم في غسيل دماغ محكم قوي المفعول يقع في أسره ويتملك فكره، ويستحوذ على كل أحاسيسه ويصعب الإفاقة منه إلا ربما بعد حين من الدهر، لكن مقتل العنزي في شهر رمضان المبارك، وفي ذروة الاستفراد الإسرائيلي الصهيوني بعدوانه الوحشي على أهالينا في غزة المسالمين الصائمين، فيما تعتبر «داعش» وأخواتها فئةً من العرب في سورية والعراق من يحق «الجهاد» ضدهم، والتنكيل بهم واجتثاثهم وتقطيع أوصالهم ورقابهم وتهديم ونسف مقدساتهم، أولى من الجهاد ضد اليهود الصهاينة في هذا الشهر الفضيل، وكأنهم ما دنسوا أولى القبلتين أو عبثوا بحائط البراق أو دنسوا المسجد الأقصى أو أبادوا ما يمكن إبادته من الشعب الفلسطيني العربي المسلم المسالم في غزة هاشم، أو غيرها من المدن الفلسطينية، وخطرهم بالتالي على العرب والمسلمين لا يتساوى مع خطر «الرافضة» الأعظم حيث أولوية الجهاد ضدهم مقدمة على الجهاد ضد «إسرائيل».
إن هذا المشهد لما بلغه العرب من هوان وحالة آخذة في التردي والانحدار السحيق عاماً إثر عام في صراعهم مع «إسرائيل» والصهيونية، وتراجع أولوية ومركزية القضية الفلسطينية كقضية عربية وإسلامية مشتركة بين العرب والمسلمين. نقول: إن هذا المشهد البالغ الخزي والعار ليذكرنا بما كان عليه المشهد السياسي عربياً أثناء العدوان الإسرائيلي الصهيوني على غزة قبل خمس سنوات، وتحديداً في العام 2009، فعلى كل ما تراكم من تردٍّ وهوان عربي منذ هزيمة 1967، وعلى الأخص منذ إخراج الرئيس المصري الراحل أنور السادات بلاده من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي العام 1979 بموجب الصلح المنفرد المتمثل في عقده اتفاقيات «كامب ديفيد» مع العدو الإسرائيلي، إلا أنه ظلت بعض بقايا من مشاهد النخوة العربية وجدناها في المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية الصاخبة في العواصم العربية خلال عدوان 2009، وكان الأقوى منها والأشد تأثيراً مسيرات الشعوب الأوروبية والغربية الاحتجاجية التي كان لها شيء من التأثير على حمل «إسرائيل» على التراجع إلى حدٍّ ما عن عدوانها، بينما هذه المشاهد على كلا الجانبين الأوروبي والعربي لا تكاد تلمس إلا ما ندر من حالات ومشاهد محدودة خلال العدوان الحالي على غزة.
ويمكننا على سبيل المثال، لا الحصر، أن نقدم هنا نموذج الطبيب السعودي القتيل تحديداً والذي سخر تحصيله العلمي في الطب الذي موّله أبوه من قوته وكده وماله في خدمة «مجاهدين» يحاربون في معركة بلا قضية مبدئية كمظهر ودلالة من دلالات حالة التردي السحيق العام الذي بلغه العرب بمقارنته مثلاً، مع نموذجين مشرّفين على المستوى العربي بوجه عام وعلى المستوى الخليجي بوجه خاص. حيث لا يعرف العرب في الغالب الأعم عن هذا الصعيد سوى الثروة النفطية والبذخ السفيه والابتعاد عن القضايا القومية.
هذان النموذجان المشرّفان يتمثلان فيما قام به الطبيبان البحرينيان علي العكري (يقضي حالياً عقوبة بالسجن في بلاده على خلفية أحداث فبراير 2011) ونبيل تمام من زيارة بالغة الخطورة إلى قطاع غزة في أوج القصف الإسرائيلي المتواصل عليها في الحرب السابقة، وحيث كانت رحلتهما إلى القطاع التي استمرت أياماً طويلة عبر مصر شاقة للغاية ومحفوفة بالمخاطر والعقبات الجمّة، كما رويا بعد عودتهما إلى الوطن مكللين بغار العزة والكرامة بعد نجاح عملهما التطوعي لمداواة وعلاج مئات المصابين والجرحى الفلسطينيين من ضحايا العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة.
لقد كان عملهما محط اعتزاز الشعب الفلسطيني والعربي، ناهيك عن فخر واعتزاز وطنهما البحرين بهما على المستويين الرسمي والشعبي. فعلى المستوى الأول جرى تكريمهما من قبل جلالة الملك من خلال تكريم الإدارة السابقة لجمعية الأطباء التي ينتميان إليها والوفد الطبي العائد من غزة في اللقاء الذي جرى بقصر الصافرية بتاريخ 27 يناير/ كانون الثاني 2009. أما على الصعيد الشعبي فلعل أبرز تكريم حظيا به تمثل في المهرجان التكريمي الكبير الذي أقامته القوى الوطنية لهما بعد فترة وجيزة في قاعة المهندسين التي غصّت بالحضور الجماهيري الواسع من مختلف فئات الشعب وأطيافه السياسية والدينية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4341 - السبت 26 يوليو 2014م الموافق 28 رمضان 1435هـ
الابتسامة صدقة
لماذا العبوس في الصورة ممكن صورة فرندلي اكثر
مرحبا
مرحبا بك فى الوسط يا أستاذ رضي
مقال ممتع
مقال ممتع ومقارنة موفقة فبورك قلمك الرشيق
التوقيع
أحمد الحداد