عانت البشرية كثيرا ولاتزال من سياسات التفرقة والتمييز بين الناس، على أساس عرقي عنصري، أو ديني طائفي، أو اقتصادي طبقي. إذ تعتقد فئة مهيمنة بأفضليتها على الآخرين، وتستأثر عليهم بالامتيازات، وتعاملهم باعتبارهم بشرا أو مواطنين من درجة أدنى.
وتعبر كلمة تمييز عن عملية حرمان فرد أو جماعة ما من التساوي في الفرص والحقوق والواجبات.
من الناحية العلمية لم تثبت صحة أي من النظريات العنصرية، التي تدعي رقي بعض السلالات والأعراق البشرية، وتخلف البعض الآخر، فجوهر الإنسانية واحد في كل الأعراق والسلالات، والاستعدادات والقدرات متشابهة، بيد أن للبيئة والمحيط دورا في تنمية المواهب وإبراز القدرات، فقد تتراكم ظروف تاريخية واجتماعية مثبطّة لعوامل النهوض والتقدم عند بعض الأمم والشعوب، بينما تنقدح شرارة الانطلاق عند أمم أخرى، لعوامل وأسباب موضوعية، تناقشها أبحاث فلسفة التاريخ والحضارة.
ولعلّ في نبوغ كفاءات متميزة، وعبقريات رائدة، من مختلف الأعراق والمجتمعات، ما يكفي دليلا على سقوط دعاوى النظريات العنصرية. كما يشهد تاريخ البشرية، بتوارث وتعاقب التقدم الحضاري بين أمم الأرض، فليس هناك عرق أو سلالة تحتكر مسيرة الحضارة في التاريخ.
يقول عبدالوهاب الكيالي في الجزء الرابع من موسوعته «موسوعة السياسة»: وقد تعرض العلماء لقضية العنصرية ولما سمي بالتفوق العنصري أو العرقي، وأشبعوها درسا وتحليلا، وتبين لهم تهافت الادعاءات القائلة بوجود فروقات عرقية جوهرية بين البشر. وتوضيحا لذلك فقد اجتمع لفيف من العلماء والمختصين في علوم الوراثة وعلم الأحياء العام (البيولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الانتربولوجيا (علم الإنسان)، وأصدروا من مقر اليونسكو في باريس، بيانا عاما يشرحون فيه بطلان النظريات العنصرية.
كما أن الانتماء الديني لا يصلح مبررا لسياسة التفرقة والتمييز، فما من دين صحيح يشجّع أتباعه على الاستئثار والجور، فقد بعث الله تعالى أنبياءه وأنزل شرائعه، لبسط العدل والخير بين الناس، يقول تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (الحديد:5). ويقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» (النحل:90).
وأية فئة تمارس التمييز بين الناس، وتدعو أتباعها لتجاهل حقوق الآخرين باسم الدين، لابد وأن تكون مخطئة في فهم الدين، أو قاصدة إساءة استغلاله.
بهذا يتضح خطأ ما تستند إليه سياسات التمييز من مبررات نظرية.
وعلى الصعيد الأخلاقي، فإن التمييز بين الناس في ما يجب أن يتساووا فيه، يعتبر انتهاكا لحقوق الإنسان، واعتداء على كرامته، وجورا وظلما لمن تمارس تجاههم هذه السياسة.
فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى على الآتي:
يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء.
وتقول المادة الثانية:
لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر.
التمييز... مخاطر وأضرار
أما على مستوى النتائج العملية، فإن سياسات التمييز تؤدي إلى أضرار بالغة، وأخطار جسيمة، من أبرزها الآتي:
أولا: إضعاف الوحدة الاجتماعية، فلا يتحقق التماسك أبدا بين فئات مجتمع يتعالى بعضها على البعض الآخر، ويستأثر عليه بالامتيازات والمكاسب. وما يظهر من حالة وحدة واتحاد، لا يعدو أن يكون حالة فوقية سطحية مصطنعة، لا تلبث أن تخبو وتتوارى عند أي امتحان حقيقي.
ثانيا: تهديد الأمن والاستقرار، فالمتضررون من التمييز تنمو في نفوسهم وأوساطهم ردود فعل تدفعهم للانتقام، وللدفاع عن كرامتهم، ولردّ العدوان على حقوقهم، وقد تنشأ في هذا الوسط عناصر متطرفة خارج إطار السيطرة والانضباط.ما يدخل المجتمع في معادلة الفعل وردّ الفعل، ويسبب حال القلق والاضطراب.
ثالثا: الاستغلال الخارجي، فلكل أمة ومجتمع أعداء ومنافسون خارجيون، يهمّهم استغلال الأوضاع الداخلية، والتسلل من الثغرات ونقاط الضعف، ووجود فئة من المجتمع تشعر بالغبن وانتقاص الحقوق، يتيح للأعداء الخارجيين أفضل الفرص، وخصوصا في هذا العصر الذي تستغل فيه القوى الكبرى شعارات حقوق الإنسان، ودعاوى الدفاع عن الأقليات.
رابعا: وأد الطاقات وتهميش الكفاءات، وضعف الاستفادة من قدرات أبناء المجتمع، مادام المقياس هو الانتماء العرقي أو الديني أو الطبقي، وليس الكفاءة والإخلاص.
بين الماضي والحاضر
كانت شريعة روما تقسم الناس إلى أحرار وغير أحرار، وهؤلاء الأحرار كانوا أيضا طبقتين: الأحرار الأصلاء وهم الرومانيون، وغير الأصلاء وهم (اللاتين). أما غير الأحرار فكانوا أربعة أنواع: الأرقاء، والمعتقون، وأنصاف الأحرار، والأقنان التابعون للأرض. وكان الأحرار الأصلاء وحدهم متمتعين بالحقوق السياسية، في معظم الفترات التي مر بها تاريخ روما، أما غيرهم فكانوا محرومين منها.
وكان المجتمع الإيراني في عهد الساسانيين مؤسسا على اعتبار النسب والحِرَف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة لا يقوم عليها جسر، ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقارا لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها.
وقبل ميلاد المسيح (عليه السلام) بثلاثة قرون ازدهرت في الهند الحضارة البرهمية، التي وضعت قانونا يعرف بـ (منوشاستر) يقسم أهل البلاد إلى أربع طبقات، هي: (البراهمة) وهم الكهنة ورجال الدين،وطبقة (شتري) وهم رجال الحرب، وطبقة (ويش) وهم رجال الزراعة والتجارة، وطبقة (شودر) وهم رجال الخدمة للطبقات الثلاث.
وقد منح هذا القانون طبقة البراهمة امتيازات وحقوقا ألحقتهم بالآلهة. وكانت الطبقة الرابعة (شودر) تمثل المنبوذين الذين لا يتمتعون بأية قيمة أو حقوق. وفي العام 1948 بدأت الحكومة الهندية مقاومة هذا التقسيم الطبقي، ومع أنه حدث بعض التقدم، إلا أن آثار ورواسب هذه الحالة لا تزال قائمة في كثير من أنحاء الهند.
وعانى الزنوج السود في الولايات المتحدة تمييزا عنصريا واسع النطاق، فترة ما قبل القرن التاسع عشر، ومنذ بداية القرن التاسع عشر، أصبحت هناك قوانين في مختلف الولايات الأميركية، لإقرار حال الفصل والعزل العنصري بين البيض والسود، بأن يستخدم كل منهما مرافق عامة منفصلة، فقد فرضت ولاية (أوكلاهوما) - مثلا - على السود والبيض استخدام أكشاك هاتف منفصلة، كما خصصت ولاية (أركنساس) موائد منفصلة للمقامرة، بينما استخدمت كثير من المحاكم أناجيل منفصلة للحلف عند الشهادة، كما تبنت بعض الولايات الجنوبية قوانين جردّت السود من حقوقهم الانتخابية.
واستمرت حالة التمييز والفصل العنصري طوال القرن التاسع عشر تقريبا، ثم بدأت في التراجع والانهيار التدريجي في العقد الثاني من القرن العشرين، وفي العام 1969 ألزمت المحكمة الأميركية العليا المدارس العامة، في المناطق المختلفة، الكف فورا عن سياسة الفصل الاجتماعي.
وحتى خلال الثمانينات تعرض السود للفصل الاجتماعي في مجال الإسكان، وعلى رغم صدور الكثير من القوانين التي تمنع التمييز والفصل العنصري في أميركا، فان الحال تتجاوز القوانين في الكثير من الموارد والمواقف، إذ لا يزال السود يعيشون في مستوى أقل تقدما من البيض، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
وفي أوروبا كان التمييز الديني موجودا لعدة قرون، من القرن الخامس إلى القرن السادس عشر الميلادي، وموجها بصفة أساسية ضد اليهود الأوربيين، إذ كان عليهم في كثير من البلاد، عدا الأندلس، حينما كانت في ظل الحضارة الإسلامية، كان عليهم أن يعيشوا داخل أحياء الأقليات اليهودية المعروفة باسم (الجيتو). كما كانت القوانين تحظر عليهم امتلاك الأراضي، والانضمام إلى النقابات الحرفية، أو ممارسة الطب أو القانون، ما أدى إلى تعذر حصولهم على العمل، إلا في تلك الأعمال التي يتجنبها النصارى.
وانتهجت حكومة البيض في جنوب إفريقيا أسوأ ألوان سياسات التمييز العنصري في هذا العصر، إذ احتكرت السلطة السياسية الأقلية البيضاء، المنحدرة من أصول أوروبية، من أحفاد المستوطنين الهولنديين الأوائل، الذين يعرفون باسم الأفريكانيين، وهم يشكلون نسبة 14 في المئة من السكان، ومارسوا تجاه الغالبية السوداء من السكان الأصليين، سياسة الفصل والتمييز العنصري (الأبارتيد)، والتي أعلنها الحزب القومي عند مجيئه إلى الحكم العام 1948م، وقد حددت للسود مساحات خاصة لحياتهم لا تتجاوز 13 في المئة من مجموع مساحة البلاد، وكان عليهم إبراز هويات شخصية للدخول إلى الأحياء التي يقطنها البيض، وكانت مدارس الدولة معزولة عزلا عنصريا كاملا، كما لم يكن ممكنا لغير البيض الالتحاق بالوظائف المتقدمة المخصصة للبيض، واستمرت هذه السياسة حتى العام 1991م، إذ ألغيت بفضل صمود ونضال الشعب، والتضامن الدولي معه.
وبقيت «إسرائيل» قلعة شاهقة للممارسات العنصرية الظالمة، محصنة ومحمية بدعم أميركي شامل، تطرد وتهجر أبناء فلسطين وأهلها الشرعيين، وتستورد اليهود الغرباء من مختلف بقاع الأرض، ليستوطنوا أراضي الفلسطينيين، ويسومونهم الجور والظلم.
وهناك في كثير من بلدان العالم حالات من التمييز بين الناس معلنة أو غير معلنة، تتم بمختلف الأشكال والعناوين.
الإسلام شريعة المساواة
قبل أربعة عشر قرنا، وحينما كانت شعوب الأرض ترزح تحت وطأة سياسات التمييز، بعناوينه المختلفة، جاء الإسلام ليدّشن عصرا إنسانيا جديدا، ينعم فيه الإنسان بالمساواة، التي تضمن له كرامته وحقوقه الإنسانية.
نص القرآن الكريم على وحدة الأصل الإنساني، وأن التنوع العرقي والقومي والديني والقبلي، هو ضمن هذا الإطار الواحد المشترك، وهو تنوع شاءته الحكمة الإلهية، لإثراء حياة البشرية، وتكامل مسيرتها. يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات:13).
إنه نداء موجه إلى الناس كافة، وكلمة (الناس) مصطلح يُعبّر به عن اسم الجنس الإنساني، وهو مصطلح لا يقبل التجزئة والثنائية، كمصطلح أمة الذي يعني جماعة من الناس، وجمعه أمم، وكذلك شعب وجمعه شعوب، وكذلك مجتمع وجمعه مجتمعات.أما الناس فهو يشمل جميع البشر، وبذلك فلا مجال لتجزئته إلا على سبيل الإضافة، ولا صيغة للجمع فيه.
وأكد الرسول محمد (ص) مبدأ المساواة في أكثر من حديث وموقف كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس سواسية كأسنان المشط».
وقال (ص) في خطبته بحجة الوداع: «أما بعد أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد،ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلّغت ؟ قالوا: بّلغ رسول الله (ص)، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فليبلغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلغ أوعى من سامع».
ويرى طه حسين في كتابه «الفتنة الكبرى»: أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين: أولاهما التوحيد، وثانيتهما المساواة بين الناس. وكان أغيظ ما أغاظ قريشا من النبي ودعوته، أنه كان يدعوها إلى هذه المساواة، ولم يكن يفرّق بين السيد والمسود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض.
(غدا: سيرة الامام علي (ع) ونهج المساواة)
عالم دين سعودي
العدد 434 - الخميس 13 نوفمبر 2003م الموافق 18 رمضان 1424هـ