ما وقع منذ شهر في الضفة الغربية من خطف وقتل لثلاثة مستوطنين إسرائيليين ثم قيام مستوطنين بخطف محمد أبو خضير الفلسطيني ذي الـ16 عاماً وحرقه حياً، حرك المياه الراكدة في فلسطين وفتح الباب لمواجهات جديدة.
فقد قامت إسرائيل بحملة تفتيش ثم اعتقالات ومداهمات ضد الفلسطينيين، إضافة إلى اعتقال الكثيرين ممن أفرجت عنهم قبل ذلك في صفقة تبادل الأسرى مع «حماس». في ظل هذه الأجواء تمرد أهالي الضفة الغربية وتمرد فلسطينيو 1948 وتوترت الأجواء. لكن إسرائيل اعتبرت غزة وحركة «حماس» فيها المسئولة عن خطف الإسرائيليين الثلاثة، بينما أكدت «حماس» أنها لم تقم بالعملية.
بالنسبة إلى إسرائيل: كل عملية ضد الاحتلال واستيطانه، بغض النظر عن الفاعل، لابد من أن يكون لها عنوان: العنوان في السنوات الأخيرة: غزة وحركة «حماس».
وبطبيعة الحال فغزة ومعها «حماس» هي الطرف الأهم الواقع خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية المباشرة. بالنسبة إلى إسرائيل: إن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بين «فتح» و»حماس» وبداية تمرد الضفة الغربية وفلسطينيي 1948 أشعرها بأخطار تمس بنية احتلالها وذلك بعد أن وضعت ما يقارب 750 ألف مستوطن في الضفة الغربية والقدس. إن المعركة الأهم بالنسبة إلى إسرائيل تقع في القدس والضفة الغربية حيث تسعى سلطات الاحتلال إلى تقطيع الأوصال ومزيد من التهويد ومصادرة الأراضي. إن معركة غزة بالنسبة إلى إسرائيل هي المدخل للمعركة الثانية في كل فلسطين.
غزة امتداد لنكبة ولقضية لازالت تتفاعل: لا حل عسكرياً لها، فآخر حروب إسرائيل في غزة كانت في العام 2012، وقبل ذلك على مدى ثلاثة أسابيع في 2008 - 2009. وفي كل الحالات لم تنجح إسرائيل في كسر إرادة الشعب الفلسطيني والمقاومة، بل ازدادت قدرات الصمود، كما ارتفعت قدرة «حماس» و»الجهاد الإسلامي» على المواجهة والاستعداد وخلق المفاجآت.
إن الهجوم البري سيكون كارثة على غزة ولكنه أيضاً سيكون كارثة على إسرائيل، ولن يحقق نتائجه. فالقصف الجوي لن يغير حقائق، بل سيزيد الآلام لأنه يقتل المدنيين ويهجر عشرات الألوف كما يمهد لحروب مقبلة وقدرات أفضل لمقاومي غزة.
ويمكن الجزم بأن «حماس» كانت أضعف قبل العملية الإسرائيلية، خصوصاً بعد خروج الإخوان المسلمين من الحكم في مصر، وبعد المصالحة مع السلطة الفلسطينية، لكن الهجمات على غزة التي بدأت في 8 يوليو/ تموز 2014 وصمود «حماس» و»الجهاد الإسلامي» أمام تلك الهجمات انتهى بـ «حماس» إلى موقف أكثر قوة نسبة إلى قوتها قبل العملية، وفي هذا فشل إسرائيلي واضح.
إن معركة غزة مثل كل معارك القضية الفلسطينية، تكشف بوضوح مأزق القوى الإقليمية. بعض الدول العربية أخذ موقف الحياد، وكأن غزة هي «الإخوان المسلمون» وليست شعباً متكامل الأركان يمثل القضية الفلسطينية ورمزيتها واستمرارها. إن ما يقارب 70 في المئة من سكان غزة هم من المناطق نفسها التي وقعت تحت سيطرة إسرائيل العام 1948، والتي أدت إلى طردهم وتهجيرهم ومصادرة كل ممتلكاتهم. إن الحياد العربي عندما يقع لا يعكس طموحات الشعوب وأمانيها. وتؤكد المشاهدات أن الحياد العربي، وأحياناً القبول بالعدوان انطلاقاً من الرضوخ للقوة، هو من أكثر ما يثير الجماهير العربية ويحرك شارعها في المدى المنظور، وعلى الأخص في المدى غير المنظور.
مصر التي خسرت غزة في حرب 1967، طالما اعتبرتها بوابتها الشرقية وحماية لأمنها القومي، فالعقيدة العسكرية للجيش المصري ومنذ كامب ديفيد اعتبرت إسرائيل عدواً لها. مصر خاضت خمس حروب متتالية ضد إسرائيل وذلك في ظل فهمها لأمنها القومي (حرب 1948 - 1956 - 1967 - حرب الاستنزاف 1969 - حرب 1973). لهذا، فترك إسرائيل تقصف وتدمر وتجوع وتحاصر وتهجر وتقتل على هذا النطاق فيه اختراق لمصر وأمنها على الصعيد الاستراتيجي.
إن الوقوف على الحياد وعدم فتح معبر رفح بصورة دائمة وفورية، بخاصة أمام الجرحى والاحتياجات المباشرة للقطاع والإمداد المدني على الأقل، فيه تغليب للتكتيكي (الخلاف مع «حماس») على الاستراتيجي والقومي. وفي هذا خطر كبير على مصر.
وقد تشكل المبادرة المصرية التي لم تلبّ مطالب المقاومة، بداية لنقاش حول شروط وقف إطلاق النار. فكل وقف لإطلاق النار بين غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي سيبقى هشاً في ظل استمرار سياسة التهويد في الضفة الغربية والقدس وفي ظل استمرار الاحتلال. مشكلة غزة ليست معزولة عن بقية فلسطين. إن أي محاولة لعزلها ستنتهي إلى فشل.
وليتحقق وقف إطلاق نار لابد من شروط منها إطلاق سراح الأسرى الذين تم اعتقالهم منذ أيام في الضفة الغربية، إضافة إلى (وهو الأهم مرحلياً) فتح المعابر على مدار الساعة أمام الجميع، وذلك لإيقاف محاولات خنق غزة التي يقطنها مليون وثمانمئة ألف مواطن فلسطيني. فحق السفر من وإلى غزة يجب أن يكون مكفولاً لكل مواطن، وحق استيراد البضائع وتصديرها يجب أن يكون مكفولاً لكل غزة. الحصار شكل من أشكال الإبادة والخنق، وما يمارسه الاحتلال يجب أن يُقَاوم، لكن المعبر من الجانب العربي المصري في رفح يجب أن يفتح على مدار الساعة، إضافة إلى ضرورة تطويره ليخدم كل غزة.
ليس جديداً أن بعض وسائل الإعلام العالمية والعربية تتماهى مع القوة فتكون مع المستعمِر على حساب المستعمَر، ومع الغرب ضد الشرق، ومع الظالم ضد المظلوم. لكن النشطاء والحقوقيين والمهمشين والضعفاء في عموم العالم العربي، بل والعالم يشعرون برابط تجاه غزة ومقاومتها للجبروت، هذا يجعل فلسطين قابلةً للتحول إلى رمز متجدد لمواجهة الظلم.
منذ جاء الصهاينة إلى فلسطين في أوائل القرن العشرين لم يتغير المشروع الصهيوني. المشروع ركز منذ البداية على أخذ ما يمكن أخذه من الأرض، وطرد من يمكن طردهم من السكان، وجلب من يمكن جلبهم من يهود العالم في ظل التحالف مع دولة كبرى، ثم التمادي فتكاً وظلماً ومصادرة في إضعاف الرافضين والمعارضين من سكان البلاد الأصليين وامتداداتهم الثقافية والعربية والإسلامية والإنسانية. هذا جوهر الصهيونية بصفتها عقيدة عنصرية وإجلائية واستيطانية واستعمارية تنتمي في الجوهر إلى القرن التاسع عشر.
إن ما تقوم به إسرائيل يقع في سياق تاريخي مستمر منذ عقود. فالدولة الصهيونية في نسختها التاريخية، والتي قامت العام 1948 على أراضٍ لم تكن ملكاً لها: هدمت مئات القرى والمناطق العربية وطردت شعباً وهجرت شعوباً أخرى على الحدود، ثم صادرت الممتلكات ومنعت عودة كل من صادرت أراضيهم ودمرت قراهم ومدنهم. إسرائيل التي سعت إلى حل المشكلة اليهودية لم تحل المشكلة اليهودية، بل خلقت مشكلة إنسانية وحقوقية وسياسية أعمق منها تشمل العالم العربي برمته والشرق الأوسط، بل والعالم الأوسع.
إن مناصرة غزة هي مناصرة لقضية قادرة على تجميع العالم العربي وتوحيد قواه وتوسط نزاعاته. فصمود غزة يشعل شمعة في طريق شعب وإقليم عربي يعيش ظلماً تاريخياً متجدداً.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4339 - الخميس 24 يوليو 2014م الموافق 26 رمضان 1435هـ
دبلوماسي بامتياز
الكاتب لا يريد فضح المسؤولين و ترسيخ الحقائق. لديه أسبابه. اما المعلق هذا ليس لديه ما يخفيه. اسرائيل ليست دولة و ليست كيان بل قوة استعمارية ستزول شاء من شاء و ابي من ابي. حالها حال كل القوي الاستعمارية التي استعمرت منطقتنا. من يراهن علي قوة اسرائيل سيخسأ دون ريب لانه يراهن علي قوة مؤقته.