تأكد للعدو، أن ما حسبوه نزهة، كان خطأ كارثيا. لم يكن في حسبانهم أن تنهال عليهم صواريخ المقاومة، وأن تصل إلى أبعد مدى شمالا، لتصل إلى مستوطنة نهاريا، عابرة تل أبيب وحيفا واللد وديمونة ومطار بن غوريون. وأن هذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى أي بقعة تختارها من الأرض السليبة
عند كتابة هذا الحديث يكون قد مر على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، اسبوعان. والقتلى تجاوزوا المئات، وأكثر من ثلاثة آلاف من الجرحى، بعضهم جروحهم خطرة. والمجتمع الدولي، ممثلاً في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، لايزال عاجزاً عن اتخاذ قرار يلجم العدوان، ويفرض بالقوة وقف الهجمة الوحشية الهمجية، على الفلسطينيين من المدنيين العزل.
والدول العربية، التي عدت فلسطين قضيتها المركزية، لم تتوصل بعد، إلى تحديد موعد لاجتماع وزراء الخارجية العرب، لمناقشة كيفية التصدي للعدوان الغاشم، إلا بعد ثمانية أيام من القصف الهمجي على القطاع.
والعدو الآن، أمام مفترق طرق، إما الانتقال من الهجوم عن بعد باستخدام الطائرات والأساطيل، والمدفعية بعيدة المدى، أو الدخول في حرب برية، ومواجهة مباشرة مع المقاومة الفلسطينية. فقد تكشف له أنه في هذه الحرب، يقاتل أشباحاً، وأن معلوماته عن قدرات المقاومة الفلسطينية العسكرية، هي أقل من الصفر، بما يجعله متحسباً في خطواته القادمة، ومتردداً عن خوض غمار الحرب البرية.
والسؤال المركزي، الذي نطرحه في هذا الحديث، هو عن أهداف الاحتلال، وهل نجح العدو في تحقيق أي من الأهداف التي من أجلها شن عدوانه.
قراءة خارطة الصراع الفلسطيني – الصهيوني قبل شن العدوان توضح تراجع الدبلوماسية الصهيونية، وفشلها في إقناع العالم بجديتها في الدخول في مفاوضات تسوية سلمية مع الفلسطينيين. فقد فشلت مفاوضات التسوية التي عقدت بين السلطة وحكومة الكيان العبري، برعاية وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ووصلت المفاوضات إلى طريق مسدود.
وقد تكشّف للعالم أن الكيان العنصري، لا يرغب بالسلام. وقد أراد نتنياهو من خلال استثمار حادثة أسر ثلاثة من المستوطنين الشبان، وقتلهم من قبل جهة غير معلومة، أن يتحوّل من جلاد إلى ضحية. لكن الصورة ظلت أفصح من كل الادعاءات الصهيونية. فمصرع الصبي محمد خضير، بعد تعذيبه أمام الكاميرا بدم بارد، قد عرّت الموقف الصهيوني. وجاءت الحرب، مستخدمة حادثة أسر الصهاينة وقتلهم من قبل جهة مجهولة، لتكون ذريعةً للعدوان، وليبرز العدوان الصهيوني، في صيغة عملية دفاعية، أمام هجمات المقاومين الفلسطينيين.
وتزامنت أحداث ما قبل العدوان، بنهوض شعبي فلسطيني في الضفة الغربية، جعل كثيراً من المراقبين، يرون بأن الأراضي المحتلة على أبواب انتفاضة ثالثة، ربما تكون أكثر عنفاً من انتفاضة أطفال الحجارة، وانتفاضة الأقصى. فكان الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، هو محاولة بائسة لاحتواء الانتفاضة، قبل اندلاعها.
هدف آخر للعدوان الصهيوني، هو التملص من اتفاقية الهدنة، التي وقعتها حكومة القطاع، بقيادة حركة حماس مع الكيان الغاصب، برعاية ووساطة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، بعد منازلة أسطورية بين الفلسطينيين والصهاينة، قبل ما يقرب من عامين من هذا التاريخ. وقد قضت تلك الاتفاقية، بهدنة طويلة بين القطاع و»إسرائيل»، لمدة عشرين عاماً.
لقد وجدت حقائق جديدة على الأرض، بسقوط حكم الإخوان، وانهيار العلاقة بين حماس ومصر، ولعل حكومة نتنياهو أرادت استكشاف موقف الإدارة المصرية الجديدة، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي. ومثل ذلك، يغيب حقيقة انتماء مصر، وأن موقفها من القضية الفلسطينية، هو موقف جوهري ومسئول، ولا يتأثر بتغير الأحوال السياسية.
وقد أدرك مختلف قادة مصر، منذ محمد علي حتى يومنا هذا، أن عمق مصر متصل بفلسطين، وأن أمن مصر واستقرارها، وضمان سيادتها، هو رهن بثبات عمقها القومي، الذي ينتهي شمالاً عند حدود أضنة، على الحدود السورية.
وأخيراً وليس آخراً، اعتمدت سياسة الكيان الصهيوني، منذ العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، ووفقاً لمذكرات رئيس أول حكومة إسرائيلية موسى شارت، أن تشن عدواناً على الجيوش العربية، عند مطلع كل عقد. والهدف هو منع المؤسسة العسكرية من استكمال بناء قوتها، والحيلولة دون تحقيق أي تراكم أو خبرات في المجال العسكري.
إن العدوان الصهيوني، على القطاع، من وجهة النظر هذه، هو محاولة لتدمير القوة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، بعد تنامي أنباء عن نموها السريع. لقد تكشف أن الاستخبارات الإسرائيلية، لم تكن على وعي بقدرات المقاومة الفلسطينية. وقد باءت بالفشل إمكانية شن حرب خاطفة على القطاع، دون تقديم أي كلف.
لقد تأكد للعدو، أن ما حسبوه نزهة، كان خطأً كارثياً. لم يكن في حسبانهم أن تنهال عليهم صواريخ المقاومة، وأن تصل إلى أبعد مدى شمالاً، لتصل إلى مستوطنة نهاريا، عابرةً تل أبيب وحيفا واللد وديمونة ومطار بن غوريون. وأن هذه الصواريخ قادرة على الوصول إلى أية بقعة تختارها من الأرض السليبة.
صحيح أن التوازن الاستراتيجي، وفق الحسابات التقليدية، بين طرفي الصراع، ليس في صالح المقاومة، وكان كذلك باستمرار، منذ أن احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967. بل يمكن القول إن ذلك لم يكن فقط بين الصهاينة والفلسطينيين بل شمل العرب. فجيش الاحتلال، كما يؤكد مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي هنري كيسنجر، قد أعد وجهز، لمواجهة الجيوش العربية، وأن يلحق الهزيمة بها مجتمعة.
ورغم الخلل الاستراتيجي، فإن معادلة الفلسطينيين الجديدة، قد توصلت إلى أن العدوان الإسرائيلي لن يمر دون كلف، وقد تحقق ذلك بالفعل. فالحكومة الإسرائيلية، أعلنت أن خسائرها في الخمسة أيام الأولى من العدوان قد تجاوزت الخمسة مليارات شيكل. وأنها مرشحة للتصاعد بشكل خطير. لقد فشل موسم السياحة الإسرائيلي، وهرب السياح إلى الخارج، بحثاً عن الأمن والسلام. وهناك خشية من هجرة يهودية معاكسة، إذا لم تتوقف هجمات المقاومين الفلسطينيين على المستوطنات والمدن والبلدات الإسرائيلية.
لقد أكد الفلسطينيون بمقاومتهم الباسلة، أنهم لن يخسروا بتصديهم للعدوان إلا قيودهم. وربما تمثل هزيمة العدوان الصهيوني، تغيراً كاملاً في معادلة الصراع، لصالح القضية الفلسطينية، وإعادة النظر في طريقة إدارة الصراع. لكن شرط هذا التغيير هو وجود الوعي والقدرة والإرادة، وذلك ما أكدته مواقف المقاومة في الأيام القليلة الماضية في مواجهتها للعدوان.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4337 - الثلثاء 22 يوليو 2014م الموافق 24 رمضان 1435هـ