العدد 433 - الأربعاء 12 نوفمبر 2003م الموافق 17 رمضان 1424هـ

الليبراليون المتأخرون وتجديد الفكر الديني

يبدو أن بعض المثقفين العرب المسلمين يريدون أن يصبحوا مارتن لوثر العرب ويعلقوا قضاياهم «الخمس والتسعين» على باب المسجد موضحين كيفية إعادة النظر في الخطاب الديني الإسلامي أو بالأحرى تجديد الفكر الديني بشكل واضح ومباشر. وحديثا وفد علينا في البحرين بعض هؤلاء المفكرين، الليبراليين، الذين استضافتهم بعض المراكز الثقافية في محاولة جميلة منها لتخصيب المرحلة الإصلاحية الحالية بشتى أنواع الفكر الحر بعيدا عن الانغلاق والتقوقع داخل شرنقة رفض الآخر. أقول إن هؤلاء المفكرين ما زالوا يرددون النغمة نفسها منذ فترة ليست بسيطة ومازالوا يعتقدون بما يقولونه ويدافعون عنه عن ضرورة تجديد الفكر الديني ولاسيما أن حوادث سبتمبر/ ايلول المعروفة الآن قد دعمت هذا التوجه وزادته حدة وإصرارا.

وكي نستوعب جيدا ما قاله وما سيقوله هؤلاء الليبراليون العرب المتأخرون، لنتعرف أولا بشكل قاموسي سريع على المصطلح السياسي الغربي «الليبرالية أو لبرالية»: هو مصطلح لتيار سياسي ظهر ابان الثورة الصناعية في أوروبا في القرن السابع عشر. وقد اقترن بها ومثلته الطبقة البورجوازية الصناعية الأوروبية في سعيها الدؤوب آنذاك ونضالها من أجل «السلطة» وضرورة المشاركة فيها ضد الأرستقراطية الإقطاعية الخاملة، في نظر هؤلاء البورجوازيين الجدد أو الطبقة المتوسطة. وكانت حجة هؤلاء البورجوازيين انهم هم القوة الاقتصادية المؤثرة في المجتمع ولذلك يجب أن يشاركوا في الحكم أيضا. وكي يضفوا على مطالبهم الشرعية التأييد من قبل المجتمع وصفوا حركتهم «بالتحررية» في نضالها ضد هيمنة السلطة الاستبدادية والإقطاع والكنيسة. وكان هدف اؤلئك اللبراليين تحديد السلطات المطلقة عن طريق البرلمان، وتوسيع الحقوق الانتخابية إلى حد ما، واطلاق الحريات السياسية وحرية الكلمة في حدود معينة بالإضافة إلى تأكيد حرية العبادة وإلغاء الامتيازات الطبقية وعدم تدخل الدولة في شئون الاقتصاد إلا في أضيق الحدود. إلا أن الليبرالية تعني أيضا موقف التساهل واللين تجاه عدوهم الطبقي والخنوع واللامبدئية، ما دفع الأحزاب الشيوعية الأوروبية فيما بعد الى وصف الليبرالية بالسذاجة المؤذية والتخاذل وانعدام اليقظة الثورية ضد الطبقة الأرستقراطية.

هذا ما حدث في أوروبا خلال الثورة الصناعية منذ ما يربو على أربعة قرون. إلا أن بعض مثقفينا العرب استيقظوا متأخرين - كالعادة - وأخذوا في ترديد هذه النغمة التي أعجبهم صوتها. ويا ليتهم صبوا غضبهم، استعانة بهذه النغمة، على السلطة المستبدة واستخدامها رموز الدين الإسلامي لتحقيق مصالحها مادامت لا تمس حدود ثرواتهم المتوارثة، لهان الأمر ولوجدوا الشارع كله معهم، لكنهم يعلمون خطورة ذلك ولأنهم ليسوا بورجوازية صناعية كالأوروبية بل بعضهم يعمل ضمن الإطار الوظيفي للدولة ومؤسساتها في بلدانهم، ويخاف على فقدان امتيازاته أو قوت يومه، يصب غضبه على نصوص الدين ويصفوها بالتحجر و التكلس وعدم العصرنة والحداثة.

حين نستمع لأمثال هؤلاء المفكرين العرب في ندواتهم هنا وهناك عما يسمى تجديد الفكر الديني أو إعادة صوغ وعصرنة الخطاب الديني أو عن موقف الليبرالية من الإسلام، يحق لنا أن نقف متسائلين: لماذا كلما أردنا البحث في تجديد الخطاب الديني استعنا بأدوات ورموز أوروبية من عصر النهضة أو عصر الثورة الصناعية والإصلاح الكنسي الذي قاده الزعيم البروتستانتي مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الأوروبية؟ هل يتعمد هؤلاء المثقفون العرب نسيان البون الشاسع بين نصوص المسيحية بأناجيلها الأربعة والانحلال الروحي والخلقي الذي كان متفشيا في أوساط الكنيسة العليا في روما في القرن السادس عشر، ما دفع القسيس مارتن لوثر بعد زيارته لروما في العام 1510 للبدء في وضع الخطط لإصلاح الكنيسة وطرق العبادة فيها والوقوف ضد عملية بيع صكوك الغفران الأوروبية الشهيرة في التاريخ. ومن ثم جاء تعليقه للقضايا الخمس والتسعين المعروفة على أبواب الكنيسة في بلاده تحقيقا لهذا الهدف. ولسنا في معرض البحث في العقيدة اللوثرية الخاصة به وحده، لكن ذكرها جاء في سياق الحديث لبيان البون الشاسع بين هذه الحركة وبين من يروجون لها في العالم العربي كمرتكز لمطالبتهم بالتغيير والتجديد الديني أو كما يذكرون صوغ الفكر الديني من جديد. ويغيب عن هؤلاء المفكرين أن لا وجه البتة للمقارنة أولا بين المسيحية التي يؤمن بها العالم المسيحي اليوم وبين الإسلام كدين غير محرف وهو خاتمة الأديان وقد حفظه الباري عز وجل من كل صنوف التحريف والتشويه «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر:9). وثانيا بين وضعية الكنيسة الأوروبية في القرون الوسطى وجزء من العصور الحديثة وبين وضعية المرجعية الدينية الإسلامية اليوم، مع ضرورة الاعتراف ببعض سوء الفهم في تطبيق الاجتهاد الديني ومبادئ الدين الإسلامي حتى من قبل أكابر علماء الدين هنا وهناك. لكن هذا لا يبرر الهجوم على الدين كنصوص وعقائد جاءت لصالح البشرية جمعاء وليس للعرب أو المسلمين فقط. لذلك أستميح مفكرينا الأعزاء عذرا هنا في السماح للعبد الفقير بالتداخل معهم في ما يطرحونه - بعد حوادث سبتمبر بالذات - من دعوات حثيثة ولجوجة لتجديد الفكر الديني أو إعادة صوغه بالأصح وفق منظورهم، وهو أحادي الجانب أيضا

العدد 433 - الأربعاء 12 نوفمبر 2003م الموافق 17 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً