لقد وضع قادة العالم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية أسس ميثاق الأمم المتحدة ليجمع بين مبدأ القوة والعضوية الدائمة للقوى الكبرى وحق الفيتو لهم في مجلس الأمن، ومبدأ المساواة في العضوية في الجمعية العامة.
ومن هنا يمكن فهم أطروحة العدالة والظلم في المنظمة الدولية التي قدمها السفير كريم الشكر في محاضرته التي أبدع في عرضها، ليس فقط كدبلوماسي مخضرم وإنما كمنظّر لعمل الأمم المتحدة، حيث عرض لنشأة المنظمة الدولية وتطور ممارساتها، موضّحاً المفارقة الكبرى بين الممارسات العادلة مثل المساعدة في استقلال البحرين والدول الأفريقية وفي تحرير الكويت وغيرها، والممارسات غير العادلة مثل تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وفي تجاهل القمع ضد الشعب السوري بعد العام 2011 حتى أحداث البوسنة والهرسك وغيرها. وكانت المحاضرة شيقة ومليئة بالمعلومات القيمة من المنظور الذي قدّمه السفير كريم الشكر.
وإذ هنا بعض الملاحظات:
الأولى: إن مقولة الظلم والعدالة في الأمم المتحدة هي مقولة فلسفية أخلاقية وليست مقولة سياسية، والأمم المتحدة هي منظمة سياسية تعبر عن القوة ومصالح الدول ذات الشأن، والتي تتلاقى أحياناً فتتحقق بعض العدالة، وتتعارض في معظم الأحيان فتتصارع ويؤدي ذلك إلى الظلم أو تجاهل حقوق هذا الشعب أو ذاك.
الثانية: إن الظلم والعدل كمفهوم أخلاقي وفلسفي يحتاج لدعامتين لتحقيق العدالة، هما وعي الشعوب وتوافق إقليمي ودولي، وهذا ما حدث في حالة استقلال البحرين ولم يحدث في حالة فلسطين، فلا توجد إرادة فلسطينية موحدة، ولا إرادة عربية موحدة، ولا توافق دولي. كما إن «إسرائيل» نجحت في التحوّل إلى قوة محورية في الإطار الإقليمي، فهي دولة تعمل بتناغم وتوافق مع القوى الفاعلة في المجتمع الدولي بما يتماشى مع مصالح تلك الدول وتسخيرها لمصلحة «إسرائيل».
الثالثة: إن كريم الشكر دبلوماسي مخضرم ولكن لديه بعض الأفكار التي تحتاج إلى مراجعة، وأسوق منها ما ذكره عن انقلاب في مصر، رغم أن مفهوم الانقلاب هذا غير صحيح في الحالة المصرية، وأيضاً عن دور العسكريين في النظام السياسي، وهو ما يدعونا إلى القول بأنه ينتمي للمدرسة القومية المثالية، وهي مدرسة غير واقعية وحالمة، ولم تحقق سوى إنجازات محدودة، بل أحياناً جلبت الكوارث على الأمة العربية وأحدثت الانقسام بجمودها في الفكر القومي العربي بشتى مدارسه، فضلاً عن جمودها كأيدلوجية.
وهذا أيضاً ينطبق على الاتجاهات السائدة في الإسلام السياسي والنظرة المثالية ذات البعد الأيدلوجي، التي لم تحقق شيئاً مذكوراً في التطبيق، ولذلك فقد تصارع حزب البعث القطري في العراق مع شقيقه في سورية؛ وتصارع الاثنان مع الفكر الناصري، ما أدى إلى فشل وحدة مصر وسورية، وفشل مشروعات الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق. كذلك الشيوعيون ودعاة الإسلام السياسي، إنهم يتقنون بناء خلايا سرية ويصعب عليهم العمل في النور وفي إطار الواقعية السياسية.
إما فكرة كريم الشكر عن دور العسكريين فهي غير مدققة وغير مدروسة إذا طبق ذلك على الحالة المصرية بل على العالم بأسره. فالذي أقام الدول عبر التاريخ هم العسكريون سواءً بتحرير أميركا من الاستعمار البريطاني، أو الملك مينا موحّد القطرين في مصر، أو أحمس طارد الهكسوس أو ماوتسي تونج ومسيرته الكبرى، ولعلنا نتذكر مقولته الشهيرة «السلطة تنبع من فوهة البندقية».
وهناك أمثلة كثيرة في مختلف مراحل التاريخ، ولذلك كان الحاكم هو الذي يقود الجيوش في الحروب، وليس المدنيون الذين لا يتقنون سوى الفلسفة مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط. أما الذي بني الإمبراطوريات فهو الإسكندر الأكبر أو سيروس في الحضارة الفارسية أو خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وطارق بن زياد أو أبوبكر وحروبه ضد الردة وعمر بن الخطاب وحزمه الصارم في تطبيق القانون، على ابنه قبل أي شخص آخر. وللأسف أن كثيراً من المدنيين والمثقفين العرب، وأنا منهم، يجيدون فن الكلام والنقاش والحوار وليس بناء الدول والإمبراطوريات.
الرابعة: إن ملاحظاتي السابقة مرجعها ثلاثة اعتبارات، الأولى دراساتي في العلوم السياسية والتاريخ؛ وثانيها إن محاضرة كريم الشكر كانت رائعة ومبتكرة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف بشأن بعض أطروحاتها، ومن ثم فهي تمثل تحدياً للفكر يستلزم استجابة في الرد من خلال الفكر؛ وثالثها إن نموذج كريم الشكر هو الدبلوماسي المخضرم المعبّر عن إيمانه بوطنه وشعبه وقياداته، ولهذا يستحق الإشادة والتقدير والمناقشة لأفكاره، ومن منطلق أن «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، كما قال العرب قديماً، رغم أنهم طبّقوه حديثاً بعكس مضمون المقولة، ولكنني ممن يعجبون بفلسفة السياسة الصينية في مقولة «دع مئة زهرة تتفتح ومئة مدرسة فكرية تتبارى»، والحكمة العربية الإسلامية في مقولة الإمام محمد بن إدريس الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»؛ ومقولة فولتير أحد فلاسفة ومفكري الثورة الفرنسية «أخالفك رأيك ولكنني أدافع حتى الموت عن حقك في إبدائه»؛ ومقولة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي عن فلسفة الشك بأنه طريق اليقين، ومقولة ديكارت الفيلسوف الفرنسي عن الشك والتفكير، لإثبات وجود الإنسان بأطروحة «أنا أفكر إذاً أنا موجود».
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4304 - الخميس 19 يونيو 2014م الموافق 21 شعبان 1435هـ
الرأي
محاولة خلق الرأي من اللارأي