من الظلم بمكان إغفال الجانب الانضباطي المهني عند تقييم أداء أية مؤسسة عسكرية ووضعه في منآى عن الجانب العسكري في الميدان، فالعسكرية والانضباط خطان متلازمان كوجهين لعملة واحدة، ونكسة 1967 مثال صارخ على أن الفساد الإدارى وسوء الانضباط الوظيفي الذي كان سائداً آنذاك في المؤسسة العسكرية ترك انعكاساته المؤلمة لاحقاً في الهزيمة. وفاقم الأمر الجهل بإدارة المعركة والتخبط في الانسحاب، ما ترك عبئاً ثقيلاً على الوحدات القتالية في الميدان، وأدى في النهاية إلى عواقب وخيمة كان بالإمكان تداركها منذ البداية، وتخفيف أضرارها لأقل من النصف لو كانت هناك إدارة عسكرية حازمة لديها صورة استباقية وتقييم صحيح بحجم الأضرار لو أُخدت فى الحسبان بعض الاحتمالات ولو 20 % للهزيمة.
سأورد بعض المقتطفات من كتاب «ناصر وعامر» لإلقاء الضوء على حالة التسيب والاستهتار لدى القائد الأعلى للقوات المسلحة عبدالحكيم عامر، والتي كان لها بالغ الأثر في دفع المعركة نحو الهاوية. «إن قصة الصراع القديم على رئاسة مكتب المشير عبد الحكيم عامر تعود إلى بداية الثورة بين المقدم علي شفيق والعقيد شمس بدران، واستمر هذا الصراع حتى 1966 عندما أقام عامر حفل عيد ميلاده في منزله في الهرم، حيث حضر الحفل عباس رضوان، وصلاح نصر، وعبدالمنعم أبوزيد وحرمه، وآخرون قلائل. ولكن بسبب سرية زواج المشير كانت صور الحفلة محدودة جداً، واختفاء إحداها كان مدعاةً لإقامة تحقيق مع عدد من المشتبهين من الحضور، ومن ضمنهم سهير فخري زوجة عبدالمنعم أبوزيد الذي كان يتحرى عن ماضي برلنتي عبدالحميد قبيل زواجها من عامر، ورغم أن برلنتي كانت صديقة سهير فخري منذ وقت بعيد إلا أنها لا تستريح لسهير وتتوجس الخوف من أن تفضح أسرارها عند زوجها أبوزيد، وهكذا كانت هذه الحادثة فرصة مناسبة للإيقاع بالاثنين وإزاحتهما (ص 115).
أما القضية الأغرب فهي أن «بعض أفراد مكتب عامر عُذبوا تعذيباً شديداً رغم قربهم من الذين قاموا بعملية التعذيب. والسبب الأساسي ليس فقط الانحرافات التي سيقت ضد بعضهم، ولكن اتهامهم بسرقة صورة خاصة للمشير وحرمه برلنتي في عيد ميلاده بدعوى استخدامها ضد المشير، وقد ثبت فيما بعد أن الصورة المفقودة كانت في حوزة والدة برلنتي! وأن القضية كانت كيدية والقصد منها الإيقاع ببعض الأفراد وإزاحتهم».
هذه الصراعات التى كانت تدور حول رئاسة مكتب المشير بلغت ذروتها عام 1966 بينما الأمة على شفا حرب مع «إسرائيل»، كان مكتب المشير عامر القائد الأعلى للقوات المسلحة والنخبة من أعضائه غارقاً في البحث عن الصورة المفقودة للمشير وزوجته! وعندما يبلغ الاستهتار بأمن الدولة من القيادات الكبيرة للقوات المسلحة الذين من المفترض أن يكونوا في كامل الجهوزية والاستنفار للمعركة، فهل هناك مفر من الهزيمة؟
من جانب آخر كانت المؤسسة العسكرية على غير انسجام تام مع المؤسسة السياسية برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر، وأقرب مثال على ذلك وعملاً بالواجب، اجتمع عبد الناصر مع نخبة الضباط برئاسة المشير قبيل الحرب بأيام، وأخبرهم بموعد الضربة في يوم 5 يونيو الساعة الخامسة صباحاً (بالمناسبة هذه المعلومة وصلت إلى جهاز المخابرات المصري من مصادر موثوقة ووضعت تحت يد الهيئة السياسية وعززتها المعلومات التي نقلها رأفت الهجان لجهاز المخابرات المصري قبل الحرب بوقت قريب جداً) وما أن خرج عامر من الاجتماع حتى قال للضباط: لم أكن أعلم أن الوحي قد نزل على الرئيس عبد الناصر! ويكفى أن نتخيل ردود فعل الضباط الذين لا يسمعون من أحد غير المشير ولا يأتمرون بغير أوامره.
«لقد حلل الكاتب عبدالله إمام المشير عامر، كما أبرز بشكل تفصيلي، مفارقات غريبة في شخصيته. ففي حين يشهد له الجميع كرجل عسكري رشحته الغالبية من أعضاء مجلس الثورة لرتبة لواء إلا أنه للأسف الشديد يفتقر للانضباط كرجل عسكري! وقد أشار محمد متولي السيد سكرتير مكتب المشير 1966 إلى كثير من تلك الأمور أبرزها انحرافات بعض أفراد مكتب المشير (ص 108 إلى 114)، التي تكشفت في قيام البعض بالكسب غير المشروع، ولكن ليس هذا بيت القصيد، بل قيام المشير بفرض حماية خاصة على مدير مكتبه علي شفيق حتى يكون بعيداً عن المساءلة في حين وجهت التهم إلى صغار الموظفين من مدنيين وعسكريين»!
أما الجوانب السلبية الأخرى التي تعرض لها الكاتب في حياة المشير بل أكثرها قبلية، فهو ما تناهى للرئيس عبدالناصر عن مدى محدودية مستوى عامر في حرب 1956، لذا قرر أن يجري تقييماً للقوات المسلحة بعد الحرب، وكان أبرزها القوات الجوية وأداؤها السيء وقال: إن صدقي محمود (رئيس أركان حرب الطيران) يمكن أن ينقل إلى منصب وكيل وزارة الحربية لشئون الطيران ويبعد عن القوات المسلحة، فردّ عامر: إذا كان الطيران قد أخطأ فاعتبروني مسئولاً أيضاً ومن المستحسن أن أستقيل أنا أيضاً. كما رفض المساس بقيادات الجيش، واعتبر أن أي مساس بهم يمسه شخصياً! كما اعتبر أن الموضوع برمته معركة شخصية! وقد انتصر للأسف الشديد المشير في هذه المعركة لسبب صعوبة عزله في هذه الفترة (هذا أحد الآراء).
وهكذا دقت هذه السقطة إسفيناً جديداً في تعميق الشقاق بين الجانب العسكري المتمثل في عامر وعبدالناصر، وصارت القوات المسلحة منذ ذلك اليوم لا تستمع ولا تأتمر لغير المشير، كما شجّع انتصار المشير في هذه المعركة أتباعه في مد يد المؤسسة العسكرية إلى خارج الجيش حتى شملت كل الميادين. وهكذا زحف العسكريون على مواقع مختلفة اقتصادية ومدنية عن طريق تعيين رجالهم في الشركات والمؤسسات وبواسطة جهاز المخابرات الذي أفرز المحافظين والكثير من الوزراء والسفراء العسكريين.
لم تكن القوات المسلحة لتبلغ هذا السوء لو جرى تعيين القائد المناسب للقوات المسلحة منذ بداية تشكيل مجلس الثورة العام 1952، ويكفى أن نعلم أن عامر قد رقي من رتبة صاغ إلى لواء متخطياً بذلك أربع رتب عسكرية دفعةً واحدة، دون أن تكون عنده أهلية لهذا المنصب عن جدارة واستحقاق، ثم رقي لاحقاً إلى مارشال (عُرّبت فيما بعد إلى مشير)! وقد أخفق الرئيس عبد الناصر في أمرين: دفع عامر لهذا المنصب منذ البداية، ثم التراخي في عزله بعد أن ثبت تدني مستواه في حرب 1956.
إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"العدد 4303 - الأربعاء 18 يونيو 2014م الموافق 20 شعبان 1435هـ
ثم ماذا
هذا هو الوضع كما كان في بلداننا. ما الذي تغير؟ ما هي العبرة التاريخية من هذا الوضع؟ في اي حرب قادمة هل الوضع المذكور في المقال لا يتكرر؟ كله زي بعضه.