كأس العالم لكرة القدم هو فعلاً أمجد الكؤوس العالمية على الإطلاق، حلم يراود الفرق الكبرى قبل الصغرى؛ فكم من منتخب كبير عريق تعثّر وأطرد من الأدوار التمهيديّة، في حين أدركت الأدوارَ النهائية منتخباتٌ مغمورة، بل وربما ضربت موعداً مع التاريخ بتحدّيها لعمالقة الكرة العالميّة في أوروبا وأميركا الجنوبيّة.
لكنّ كأس العالم لا يمرّ دائماً برداً وسلاماً على كل العالم، فهو وإن كانت مبادؤه الأولمبية تنأى به عن التجاذبات السياسية، يبقى مناسبة سانحة لإثارة واستثارة نعرات سياسية تجعل متابعة الأطباق الكروية التي يتحفنا بها المستطيل الأخضر ممزوجةً بنكهة سياسية داخلية وخارجية، كما هو واقع الحال في كأس العالم 2014 بالبرازيل.
ففي بلد يتنفّس كرة قدم، وله فريق سطّر عبر التاريخ أمجاداً جعلت منه المنتخب الأكثر شعبيّة على مستوى العالم، في بلد يحقّق نموّاً اقتصاديّاً لافتاً ويشكو من مشاكل اجتماعية لافتة أيضاً، لا يمكن أن يمرّ حدثُ استضافة كأس العالم مرور الكرام؛ فلقد دخل عمّال قطارات الأنفاق في مدينة ساوبولو في إضراب نجحوا من خلاله في سحب الأضواء من البطولة ذاتها، وصار الحديث عن الإضراب أهمّ من الحديث عن أوّل مونديال تستضيفه البرازيل بعد 64 عاماً.
وقد مثّل التوقيت الذكيّ لشنّ الإضراب ورقة ضغط لدفع الحكومة نحو الاستجابة إلى المطالب الاجتماعية للمتظاهرين، لكن لا يرقى هذا الإضراب إلى إفساد كأس العالم أو إفشال تنظيمه، وقد تنفّس الجميع الصعداء حين أعلنت نقابة عمال قطارات الأنفاق في مدينة ساوباولو التراجع عن الإضراب، كما ساهم الفوز الأوّل على كرواتيا في تهدئة الأجواء ولو نسبياً. لكنّ هذه الاحتجاجات من شأنها أن تحمل المنتخب البرازيلي على مضاعفة الجهد للظفر باللقب، إلاّ أنّ الانسحاب المبكر، خصوصاً وأنّ منتخب «السامبا» ليس في أحسن أحواله، قد يسفر عمّا لا تحمد عقباه.
لذلك أصبح من السياسيّ بالضرورة على المنتخب البرازيلي الفوز باللقب حتى يجنب البلاد مزيداً من التوتّر، وأمّا المطلوب من الشعب البرازيلي فقد حددته رئيسة البرازيل ديلما روسيف، حين دعت شعبها إلى احتضان البطولة وإظهار روح الضيافة الحقيقية للزوّار. وأمّا المطلوب من الرئاسة البرازيلية فهو الاستجابة إلى المطالب الاجتماعية المشروعة للعمّال.
هذا على مستوى البلد المستضيف، أمّا على مستوى الضيوف من المنتخبات وجماهيرها، فالأمر لا يخلو من سياسة رغم تأكيد المبادئ الأولمبية على أنّ المنافسات الرياضية فرصة لتجاوز كل الخلافات السياسية. غير إنّ روائح المشاكل السياسية أو الإثنيّة أو الدينيّة، قد تنبعث خلال هذه المباراة أو تلك، سواء من خلال سلوك اللاعبين أو المسئولين أو الجمهور؛ وحسبُك أن تذكُر لقاء المنتخب الجزائريّ والمنتخب الأميركي في النسخة السابقة من البطولة حيث اصطفّ كل العالم العربيّ والإسلاميّ وراء «الجنود الجزائريّين» في معركة ردّ الاعتبار والثأر، ولو كرويّاً، طالما يستحيل غيره أو يكاد، من الدولة التي ترعى الكيان الصهيوني وتحميه، والتي دخلت العراق فخرّبته، ومن قبله احتلّت أفغانستان وما طهّرته مما تسميه إرهاباً بل ازداد الأمر فيه سوءًا.
نعم، خلال هذه المباريات تتداعى إلى ذهن الغالبية من المشاهدين المقهورين صورٌ وذكريات مؤلمة ما ينعكس على ميولهم الكروية فتطفو رغبة جامحة في هزيمة الكبار، ولو كروياً، عند الطامحين من الصغار.
لكنّ البهارات السياسية لكأس العالم تطفح روائحها من كلّ جانب وهذه المرّة في دول الجنوب، دول الفقر المدقع، حيث كرة القدم المتنفّس الوحيد لملايين الناس، حيث يولد الناجحون والمشاهير من اللاعبين هناك يُحرَم الفقراء من مشاهدة كأس العالم بحجة البث الحصريّ واحتكار الفرجة على من يملك المال، فلا يستمتع الفقراء بمشاهدة لعبتهم المفضلة، أولئك الفقراء الذين ما توقّفوا عن إنتاج النجوم وتصديرهم إلى دول الأغنياء ليستمتع هنالك المشاهدون بإبداعاتهم ويُحرم إخوانهم وأبناء عمومتهم من متابعتهم، واسألوا إن شئتم من أين خرج رونالدو ودروغبا وبيلي من قبلهم والقائمة تطول.
نعم، حين تقدم القناة المالكة حصرياً لحق احتكار البثّ على القادرين على شراء بطاقة اشتراك مع ريسيفر خاصّ بها، يُجبَر المشاهدون في دول العالم الفقيرة إلى الهجرة إلى المقاهي حيث اللقاء بين الكبار والمراهقين، وأحياناً الصغار وحدّث هناك ولا حرج.
وبالعودة إلى التاريخ، تجد أنّ السياسة قد طفح كيلها في مباريات كرة القدم؛ إذْ يذكر لنا التاريخ ست مباريات في كأس العالم صنعت أحداثاً سياسية كبرى: فقد تسبّب فوز كوريا الشمالية على أستراليا في تصفيات كأس العالم (إنجلترا 1966) في أزمة في بريطانيا نظراً لرفض البريطانيين الاعتراف بوجود كوريا الشمالية أو رفع علمها أو إذاعة نشيدها الوطني بسبب الحرب الكورية، وقررت الحكومة البريطانية عدم منح اللاعبين الكوريين تأشيرات دخول، لكنها تراجعت بعدما هددتها «الفيفا» بسحب تنظيم البطولة.
كما تسببت مباراتان في تصفيات كأس العالم العام 1969 بين السلفادور وهندوراس، في وقوع حرب حقيقية بين البلدين عرفت باسم «حرب المئة ساعة»، وشهدت إسقاط القوات السلفادورية قنابل فوق مطار رئيسي في هندوراس ما أدى إلى وقوع قتلى وجرحى.
والكلّ يذكر مباراة مصر والجزائر الفاصلة في تصفيات كأس العالم 2010 والتي تسبّبت في أزمة دبلوماسية بين البلدين الشقيقين، ما أدّى إلى استدعاء السفراء فضلاً عن حرب إعلامية وأعمال شغب استهدفت السفارتين. وفي الإطار نفسه، شهدت العلاقة بين ايرلندا وفرنسا توتراً بسبب تأهل الفرنسيين لمونديال 2010 على حساب ايرلندا بهدف سجله تييري هنري بيده دون أن يلاحظ الحكم.
لكن وبالمقابل، ساهمت كرة القدم في تلطيف الأجواء السياسية؛ فبعد تتويج فرنسا باللقب العام 1998 بفضل لاعبين من أصول غير فرنسية مثل زين الدين زيدان ومارسيل ديساييه، توارت النعرات العنصرية وتناقص حجم الكراهية بين الفرنسيين سواء من أصول فرنسية أو من أصول عربية وإفريقية.
كما ساهم المنتخب الإيفواري العام 2007 في القضاء على حرب أهليّة في البلاد، عندما دعا اللاعبون لإقامة المباريات المؤهلة لكأس العالم تحت اسم كوت ديفوار موحدة ومتحدة خلف فريق واحد، وساهم ذلك في تقليل النعرات الانفصالية التي ظهرت في شمال البلاد.
بعد جولة بين الحاضر والماضي كيف تراه مستقبل العلاقة بين الكرة والسياسة؟ كيف سيكون الحال لو تأهل منتخب الكيان الصهيوني إلى مونديال قطر 2022 المنتظر؟ أَتُقاطع الدول العربية، التي قلما تتأهل؟ أم تنكشف ورقة التوت عن سياستنا العربية إزاء الكيان الصهيوني؟
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4301 - الإثنين 16 يونيو 2014م الموافق 18 شعبان 1435هـ
هذه طبعا لا تنسى
مباراة مصر والجزائر الفاصلة في تصفيات كأس العالم 2010 والتي تسبّبت في أزمة دبلوماسية بين البلدين الشقيقين، ما أدّى إلى استدعاء السفراء فضلاً عن حرب إعلامية وأعمال شغب استهدفت السفارتين.
شكرا على المقال
صراحة النبذة الأخيرة عن المباريات الست التي اثرت في العلاقات حلوة
واصل أستاذ دائما تمتعنا
ينصر دينك
لكنّ البهارات السياسية لكأس العالم تطفح روائحها من كلّ جانب وهذه المرّة في دول الجنوب، دول الفقر المدقع، حيث كرة القدم المتنفّس الوحيد لملايين الناس، حيث يولد الناجحون والمشاهير من اللاعبين هناك يُحرَم الفقراء من مشاهدة كأس العالم بحجة البث الحصريّ واحتكار الفرجة على من يملك المال، فلا يستمتع الفقراء بمشاهدة لعبتهم المفضلة، أولئك الفقراء الذين ما توقّفوا عن إنتاج النجوم وتصديرهم إلى دول الأغنياء ليستمتع هنالك المشاهدون بإبداعاتهم ويُحرم إخوانهم وأبناء عمومتهم من متابعتهم،
آآآآآآآآآآآه يا قطر
بعد جولة بين الحاضر والماضي كيف تراه مستقبل العلاقة بين الكرة والسياسة؟ كيف سيكون الحال لو تأهل منتخب الكيان الصهيوني إلى مونديال قطر 2022 المنتظر؟ أَتُقاطع الدول العربية، التي قلما تتأهل؟ أم تنكشف ورقة التوت عن سياستنا العربية إزاء الكيان الصهيوني؟
إلى زائر 2 وسؤالك الوجيه
حين تنظمه قطر
سؤال وجيهً
متى سيفوز منتخب البحرين ببطولة كأس العالم ؟؟؟؟؟
شكرا مقال جيد وخاصة هذه:
نعم، حين تقدم القناة المالكة حصرياً لحق احتكار البثّ على القادرين على شراء بطاقة اشتراك مع ريسيفر خاصّ بها، يُجبَر المشاهدون في دول العالم الفقيرة إلى الهجرة إلى المقاهي حيث اللقاء بين الكبار والمراهقين، وأحياناً الصغار وحدّث هناك ولا حرج.