لا شك في ان من اكثر الاسئلة الحاحا في الوقت الراهن فيما يتعلق بالمشهد الفلسطيني، هو : متى ينتهي مسلسل الحكومات الفلسطينية؟
السؤال تفرضه حقيقتان: 1- ان الظروف المصيرية الحالية، لا تحتمل مسلسلات - مماحكات من هذا النوع. 2- انه في خلال سنة وشهرين شهد الوضع الفلسطيني اربع حكومات جاءت وذهبت من دون ان تقدم اية مساهمة في عملية للاحتلال الاسرائيلي. بدأت عادية، انتقلت إلى حكومة طوارئ. تحولت إلى حكومة تصريف اعمال. وانتهت الى تشكيلة معلقة، قيد التركيب، ربما يتم التوافق على تأليفها وتوزيع حقائبها.
يحصل ذلك وتتوالى فصوله، بكل ما انطوى عليه من ارباك واحباط وتشتيت، فيما الاحتلال يواصل تصعيده وتثبيته لوقائع توسيعة جديدة على الأرض ويمعن في تهشيم الجسد الفلسطيني بسكين جدار الفصل العنصري، المثمر في اقامته، بدعم اميركي صريح وصمت دولي مريب، ناهيك بالغياب العربي.
آخر الفصول بدأ أول امس، مع نهاية عمر حكومة الطوارئ واعادة تكليف رئيسها ابوالعلاء، بتشكيل وزارة جديدة، موسعة وعادية.
واكبت التكليف والشروع بالتأليف تصريحات رسمية اوحت بوجود حلحلة وانفراج وتجاوز لازمة التوزير. الرئيس المكلف، احمد قريع، طلب عقد جلسة للمجلس التشريعي، بعد ايام، كي يعرض امامه برنامج حكومته ويطلب الثقة على اساسه. الوزير نبيل شعث قال ان الحكومة الجديدة ستعمل «فورا» على التوصل إلى وقف «ثابت ودائم» لاطلاق النار. الرئيس الجديد للمجلس التشريعي، تحدث هو الآخر بما يعزز الاعتقاد بأن الماكينة الحكومية باتت على سكة الاقلاع وان من اولوياتها «اعطاء السلام فرصة» كأن الجانب الفلسطيني مقصر في اعطاء الفرص من هذا النوع!
لكن عند اول لقاء قيادي تبين ان «حليمة رجعت إلى عادتها القديمة». لا حكومة ولا جديد. المأزق نفسه يتكرر. لقد اجتمعت اللجنة المركزية لحركة فتح ولم تتوصل إلى حل الخلاف بين الرئيس عرفات ورئيس الحكومة المكلف، قريع، بشأن هوية وزير الداخلية وصلاحياته.
احد الوزراء اعترف صراحة بأن «الوضع صعب»! واضاف بانهم يريدون - ضمنا «الاميركيون والاسرائيليون» - ان ندخل في حرب اهلية، والحكومة لا تقبل بهذا الامر. إذا المشكلة في دفتر الشروط الاميركي - الاسرائيلي، وليست في الصراع على مقعد وزاري بحد ذاته، ولا بشأن هوية من يشغله، بقدر ما هي مسألة مواصفات مطلوب توافرها في صاحب هذه الهوية، بحيث يكون مؤهلا لتلبية الشروط المفروضة. وهذا الدفتر معروفة بنوده وتكررت مرارا. وحتى لا يكون هناك اي التباس بشأنها، فقد اعادت الخارجية الاميركية التذكير بها قبل يومين، عندما قال المتحدث إنه «يجب على رئيس الحكومة ان يتمتع بصلاحية الاشراف على القوى الامنية كافة، كما ان على الحكومة الجديدة ان تعبر وبوضوح عن معارضتها لكل اشكال «الارهاب»، ومطلوب من رئيسها اتخاذ اجراءات عملية لتجريد المنظمات غير الخاضعة للسلطة من اسلحتها». بيت القصيد: مطلوب ضرب المقاومة، والا فلا تعامل مع الحكومة ولا حديث عن «خريطة طريق» او دولة فلسطينية كما قال الرئيس بوش. واول خطوة مطلوبة في هذا الاتجاه تتمثل في تجريد عرفات من ورقته الامنية القوية التي تجعله يتحكم بالقرار السياسي. إذا الموقف الاميركي على اوضح ما يكون. هكذا كان من البداية وعلى تطابق تام مع الاسرائيلي. ولم يتزحزح قيد انملة. لكن الموقف الفلسطيني، على مستوى السلطة، ليس بهذا الوضوح. بل هو غارق في اللف والدوران. في العلن يقول اصحابه - الذين تمسكوا او الذين يتمسكون الان بوزارء داخلية معينين إنهم لن ينزلقوا الى هاوية الاشتباك الاهلي. في الوقت ذاته يدور الصراع في الخفاء بشأن ضرورة ارضاء واشنطن. لضمان العودة إلى «خريطة الطريق» التي راهنوا ومازالوا يراهنون عليها. واذا لم يكن الامر كذلك فلماذا إذا استمرار الصراع ومعه المأزق السياسي - الحكومي الفلسطيني؟ فبين الموقف المعلن وما يدور في الكواليس، ثمة فجوة مطلوب ردمها. ثم هناك سؤال جوهري يلح على جواب: لماذا اصلا تشكيل الحكومات وحرق كل هذا الوقت والجهد ناهيك بالاذى الفادح الذي يتسبب به على الساحة الفلسطينية؟ واذا كان لابد من هذا الاجراء فلماذا لا يصار الى تأليف «حكومة مقاومة»؟ اوليس الظرف هو وقت مقاومة بامتياز، بعد ان تكشف خواء كل المشروعات والمراهنات وبعد أن ثبت بالملموس أن المناشدات والنداءات والمطالبات الدولية لا تجدي ما لم تنطلق من جبهة داخلية صلبة موحدة عن بند مواجهة الاحتلال؟
اخطر ما في المأزق السياسي الفلسطيني الراهن هو انه يعطي المزيد من الفرص للخصوم كي يحققوا المزيد من الاختراقات في الوضع الفلسطيني وبالتالي زيادة سرعة عطبه بدلا من تحصين مناعته. ومثل ذلك لن يتحقق ما لم تحصل اعادة نظر بمجمل الممارسة السائدة منذ اوسلو فالمسلسل الجارية حلقاته هو ابن المقاربة التي انكشف عقمها، لادارة الصراع مع «اسرائيل». وحتى تتغير هذه المقارنة تبقى المعادلة القائمة محكومة بتوليد النمط ذاته من الازمات والمآزق التي تبدد الامكانات والموارد الفلسطينية، فضلا عن الدعم الفعال الذي تحظى به القضية على المستوى العالمي وهي امكانات على تواضعها وعلى رغم البلبلة التي سادت ساحتها الداخلية، قدرت على تدفيع العدو الاسرائيلي كلفة موجعة لعدوانه. فكيف اذا تجمعت كل قدرات هذه الساحة بدلا من اشغالها بلعبة تشكيل حكومات لا تقدم ولا تؤخر
العدد 430 - الأحد 09 نوفمبر 2003م الموافق 14 رمضان 1424هـ