في عالم السياسة يشكل مفهوم «الشعب مصدر السلطات» محور ولب العملية الديمقراطية الحقيقية، حيث أن للشعب الكلمة الفصل في توجيه دفتها في حال تم تمكينه من ممارسة حقه بحرية فيما يخص اختيار ممثليه في المجالس المنتخبة. ولكن إذا ما تم سلب هذا الحق الأصيل من الشعب سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، أو تم التلاعب به بشكل يفقده مضمونه الحقيقي، فحينها تضيع البوصلة، ولا يصح مطلقاً التحدث عن الديمقراطية، بل في الحقيقة يصبح الأمر أخطر بكثير من أي نوع من أنظمة الحكم الشمولية، حيث أنه وبعنوان الديمقراطية المزيفة تنتهك كل المحرمات ويتم إضفاء الشرعية على المحظورات بشتى أنواعها، وهذا بالطبع أشد وطأة على الوطن ومستقبله.
فالمتتبع لما حدث ويحدث للمجالس البلدية بشكل عام، ومجلس بلدي العاصمة بشكل خاص، الذي طالته يد الجور من خلال الموافقة على إلغائه من قبل مجلس النواب، يجد أن هذا الأمر من المؤكد قد خطط له منذ زمن، ولم تكن بداية المقترح الذي قدمه بعض النواب نابعاً من أنفسهم، بل وحسب الشواهد المختلفة، أصبح الكثير من النواب أدوات بيد المؤزّمين الذين يستفيدون من خلق الأزمات المختلفة والمتلاحقة لضرب المعارضة الوطنية وجمهورها الواسع. كما أن من المؤكد أنه ليس له علاقة بالمبررات الواهية المغلفة التي سوقت من أجل إلغائه، بينما بواعثها طائفية بامتياز، لأن أكثرية الأعضاء البلديين من الفئة المغضوب عليها. فهو استمرار لسياسة الإقصاء والتهميش لمكوّن كبير في المجتمع البحريني، ومحاولة سلب حقوقه الأصيلة التي نص عليها الدستور المحلي، فضلاً عن المعاهدات والمواثيق الدولية.
إن من المؤكد أن مقترح إلغاء مجلس بلدي العاصمة واستبداله بأمانة معينة، تم بناء على رغبة من السلطة التنفيذية في المقام الأول، وذلك على غرار ما حدث سابقاً للأعضاء البلديين الخمسة المنتمين للكتلة البلدية لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، الذين أسقطت عضويتهم ظلماً وجوراً وسلباً للإرادة الشعبية. كما أوضح أحد أعضاء بلدي المحرق في اجتماع رسمي وبوجود الصحافة، بأنهم (أي أعضاء مجلس بلدي المحرق) امتثلوا لأوامر الحكومة، التي طلبت منهم إسقاط العضويةّ!
ومن ضمن المستفيدين من إلغاء مجلس بلدي العاصمة المتنفّذون بمختلف درجاتهم، وتلاوينهم ومواقعهم، حيث أن لهم مصلحة كبيرة في هذا الأمر، وذلك من أجل تمرير مشروعاتهم المختلفة من دون تمحيص وغربلة، أو مراقبة من المجلس البلدي، حيث أن العاصمة تحظى بأهمية كبيرة لكثرة مشروعاتها ومواردها المالية التي يزيد دخلها السنوي على الثلاثين مليون دينار.
وللأسف نحن في وطننا الغالي نعيش المفارقات الكبيرة الواحدة تلو الأخرى، حيث أنه بدل التقدم على سلم الديمقراطية، وإفساح المجال لمزيدٍ من المشاركة الشعبية، يتم إلغاء إرادة هذا الشعب، ويتحوّل النواب إلى أدوات قمع وتحجيم لكل تطلعات الشعب، الذي ضحى بكل غال ونفيس من أجل الحصول على حقوقه الأصيلة، التي يأتي في أعلى سلم مطالبها التمثيل العادل في المجالس البلدية والتشريعية الكاملة الصلاحية والبعد عن البيروقراطية في العمل وتطبيق حقيقي لمبدأ الشفافية، وزيادة مساحة التمثيل الشعبي الذي له أبعاده المختلفة الاجتماعية والنفسية بالغة الأثر على المواطنين.
فبالنسبة للبعد الاجتماعي، من المؤكد أن المواطنين الذين أوصلوا الأعضاء البلديين إلى مقاعد المجالس البلدية أو النيابية والذين هم أتوا من أوساطهم الاجتماعية ومن رحم المعاناة، فإن المواطنين أنفسهم يتابعون أداءهم ويتفاعلون معهم بشكل مباشر، من أجل الإسهام في تحسين الخدمات البلدية. هذا فضلاً عن العوامل النفسية البالغة الأهمية، والتي تتلخص في شعور كل فرد في المجتمع أن له الحق في اختيار من يمثله في المجالس البلدية والنيابية، وليس أن يفرض عليهم أشخاص من خلال التعيين، ولو افترض جدلاً أن الأشخاص الذين سيتم تعيينهم ذوو كفاءة كبيرة، ولا غبار عليهم من النواحي الأخلاقية، فإن هذا الأمر (أي التعيين) يسلب المواطنين حقاً أصيلاً وهو الحرية في اختيار من يثقون بهم ويعتقدون بأنهم قادرون على تمثيلهم ويعبرون عن تطلعاتهم. فالمواطنون ليسوا أحجاراً صماء، بل لهم عقول وخيارات يجب أخذها في الحسبان في عالم الديمقراطية الحقيقية. فمن الطبيعي أن يرفض المواطنون الوصاية والتعامل الفوقي المهين وعدم إفساح المجال لهم للأخذ بآرائهم وتطلعاتهم المشروعة.
إن سلب جزء كبير من المواطنين حقهم في اختيار ممثليهم هو غياب صارخ للعدالة الاجتماعية، وتمييز بين أفراد المجتمع على أسس أقل ما يقال عنها بأنها غير وطنية ولا أخلاقية، وذلك بناءً على مناطق سكنهم والانتماء الطائفي والتوجه السياسي.
فكل محب لوطننا الغالي لابد أن يشعر بالأسى وهو يرى الانحدار والتراجع في جميع مناحي حياتنا، واستمرار مسلسل التهميش الشعبي والاستهداف الطائفي الممنهج لأكبر مكون في الوطن حتى بلغ أوجه. فحقاً هي أنباء لا تسر المحب، ولا أجد نفسي إلا أتمثل بقول أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال في قصيدة «نكبة دمشق»:
لَحاها اللهُ أَنباءً تَوالَتْ
عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ
ولكن وعلى رغم الصعاب ووعورة الطريق، فلاشك أن الفجر سينبلج بإذن الله تعالى، وأن التفاؤل بمستقبل مشرق للوطن هو بالتأكيد ديدن مواطني هذه الأرض الطيبة، وذلك من منطلق عدالة مطالبهم التي تقرها جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 4298 - الجمعة 13 يونيو 2014م الموافق 15 شعبان 1435هـ
شرعنة الدكتاتورية
فعلا أصبت الحقيقة يا دكتور، فما يجري هو مزيد من التهميش والعزل لطائفة لأنها تطالب بحقها الدستوري والإنساني والديني، ويبرهن ان المجالس المنتخبة ما هي الا كيانات ورقية تستخدم لتجميل قبح الدكتاتورية، وإلا بربك أي مجلس شعب يعمل على تقليص صلاحياته المحدودة أصلا؟!!
ديمقراطية زائفة
أحسنت، مقال وضع النقاط على الحروف ولكن، المشكلة تكمن في من يتسمون بالنواب وهم من على ظهورهم تمرر كل القوانين المجحفة والمقيدة للحريات ومن أهمها حرية إختيار الممثل البلدي والنيابة وهو حق تكفله كل المواثيق والعقود الدولية. فما لم تكون العدالة أساس في آلية إختيار النائب، فالنائب!!!