ستة وستون عاماً، مرت منذ تأسس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وقد اعتاد الفلسطينيون والعرب، أن يستذكروا هذا اليوم، تارة لممارسة جَلْد الذات، وتارة أخرى لأخذ العبرة مما حدث، وأمسى هذا اليوم، في الغالب يأخذ حيزاً من بكائياتنا. وسلوكنا هذا طبيعي وموضوعي، لأن الأمل يظل حياً ومتوقداً، طالما بقيت الذاكرة حية ومتوقدة.
ولأن التاريخ لا يعيد نفسه، فكذلك الرؤية والفهم لطبيعة صراعنا مع الصهاينة، أيضاً غير ساكنة. بمعنى أننا حين نستذكر النكبة كل عام، فإننا لا نعيد تكرار مرثية الهزيمة، بل نقدّم قراءة جديدة، تتسق مع طبيعة اللحظة، والتطورات التي طرأت على مجرى النضال الفلسطيني، والفعل ورد الفعل تجاه الممارسات والاستراتيجيات الصهيونية، تجاه القضية الفلسطينية.
تقودنا هذه المقدمة، إلى ما يجري الآن في الساحة الفلسطينية، والوطن العربي، من أحداث كبرى، ستلقي بظلالها حتماً على مجرى الصراع مع العدو الصهيوني. ونجيز لأنفسنا القول، إن هذا العام، بخلاف الأعوام السابقة، يحمل مؤشرات مختلفة، تدفع بنا إلى التفاؤل، رغم ما يبدو على السطح من أجواء داكنة، تسبب فيها تعنت الكيان الغاصب، ورفضه الانصياع لمبادئ حقوق الإنسان، وحق الأمم في تقرير المصير. بل وطرحه لمطالب جديدة، كالإصرار على يهودية دولة «إسرائيل»، بما ينسف ادعاءه بالديمقراطية، وبعلمانية كيانه الغاصب، وأيضاً مشروعه الآخر، لتبادل الأراضي، الذي يعني استبدال السلطة الفلسطينية، المستوطنات الصهيونية بالضفة الغربية، بأراض أخرى في صحراء النقب. بل وبلغت غطرسته حد المطالبة بطرد الفلسطينيين من مخيماتهم في الشتات، للقضاء على البقية المتبقية من الذاكرة الفلسطينية.
رغم ذلك كله، تبقى العناصر المحرضة على التفاؤل أكثر مما يبعث على التشاؤم . فقد اعتدنا، كل عام، على عدم وجود ضوء في النفق، منذ انتهت انتفاضة القدس. بل ورأينا تمزقاً وتشظياً للإرادة الفلسطينية.
تمرّ نكبة فلسطين هذا العام، وصناع القرار الفلسطيني يستعدون لإعادة اللحمة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي عودة العلاقة النضالية بين فتح وحماس، وبقية فصائل حركة المقاومة الفلسطينية، بما يغير من معادلة الصراع مع العدو. المعادلة المستندة إلى التفرد بقطاع غزة أحياناً، والضفة الغربية في أحيان آخر. وكان هذا التمزق من العوامل التي أسهمت بشكل مباشر، في زيادة التعنت الصهيوني، ورفع أخرى سقف مطالبه في المفاوضات الماراثونية، التي انتهت إلى طريق مسدود.
وعلى الصعيد العربي، تتجه المنطقة بأسرها، إلى شيء من الاستقرار، بعد الحوادث العاصفة التي مرت بها، بعد ما عرف بالربيع العربي. وهناك اعتراف بفشل الهويات الجزئية، وما قبل التاريخية، وقبول بالهويات الجامعة. وهناك أيضاً تقهقر للتيارات الإسلامية المتطرفة، بعد هزيمة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والاقتراع على دستور جديد يمثل إرادة أغلبية المصريين.
يتزامن ذلك، مع وعي جديد لدى الشعب التونسي، وفرض دستور جديد، يعبر عن تطلعات التونسيين في الحرية والعدالة، ويرفض سياسة الإقصاء، وهيمنة جماعة الإخوان على مقدراته.
وهناك موقف عربي وعالمي، مناوئ لنزعات الإرهاب والتطرف، واتفاق عام على أن الخيار الممكن والمقبول لحل الأزمة في سورية، هو التفاوض والحل السياسي، بعد أن تكشف دور التنظيمات الإرهابية من «داعش» و»جبهة النصرة»، واحتمالات انتشار الأعمال الإرهابية، إلى بلدان عربية مجاورة. وقد حدث ما يقترب من ذلك، في اليمن السعيد، حيث انتهى الحوار الوطني، وينتظر أن تنطلق في الأيام المقبلة عملية سياسية، تبدأ بالاتفاق على مسودة الدستور، لتهيئ للانتخابات النيابية والرئاسية، وليسير اليمن على السكة الصحيحة.
ويشهد الوطن العربي، موسم انتخابات، في عدد من الأقطار العربية، أنجز بعضها، وبعضها الآخر على طريق الإنجاز، وينتظر أن يتبعها، انطلاق جديد، بما يلبي تطلعات الشعب العربي، في التنمية والتقدم، وتحقيق التضامن بين الأشقاء.
في أرض الكنانة، بدأت الانتخابات الرئاسية للجاليات المصرية، خارج مصر، بين مرشحين هما المشير عبدالفتاح السيسي، وحمدين صباحي. الأول جاء من المؤسسة العسكرية، وكانت له إسهاماته الأساسية في ثورة 30 يونيو عندما استجاب الجيش المصري للثورة الشعبية، ضد جماعة الإخوان المسلمين، وأعلن انحيازه لها، لينتهي إلى الأبد حكم الجماعة في مصر العربية.
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، هناك تداعيات إيجابية مباشرة على مجراها. فالمرشحان، يتفقان، كما ورد ذلك في تصريحات تكررت على ألسنتهما مؤخراً، على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب المركزية. بل إنهما يذهبان إلى ما هو أبعد من ذلك، فالمرشح حمدين صباحي، أعلن صراحة، أنه في حال تسلمه سدة رئاسة مصر سيطالب بإجراء تعديلات جوهرية على معاهدة «كامب ديفيد»، بما يؤمن السيادة الكاملة لمصر على كامل أراضيها، من غير نقصان. أما المرشح المشير السيسي، فإنه يقول بوضوح، في معرض الحديث عن محاربته للإرهاب، والسؤال عن تعديل معاهدة «كامب ديفيد»، إنه لن يستأذن أحداً في تعداد ونوعية الآلات العسكرية التي ستنقل إلى سيناء، لمواجهة الإرهابيين.
كما يدعو السيسي الشعب المصري، إلى التمييز الواضح بين الشعب الفلسطيني الشقيق المظلوم، الذي تساند مصر نضاله بكل الوسائل، وبين حركة «حماس»، التي اختارت الانحياز إلى جماعة الإخوان وليس إلى فلسطين. وهو بهذا التوجه، يقطع وعداً، على نصرة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأن العلاقة مع الكيان الصهيوني ستكون في أدنى مستوياتها، ما لم ينل الفلسطينيون حقوقهم، وتقوم دولتهم المستقلة فوق ترابهم الوطني.
إن المرشح السيسي بتصريحاته هذه، يعيد مصر إلى موقعها الصحيح في مجرى الكفاح العربي، لنصرة القضية الفلسطينية. ومصر هي قلب الأمة، ومنها يبدأ قرار الحرب وقرار السلام. وكان غيابها في العقود الثلاثة الماضية، قد تسبب في انهيارات كبرى في الجسد العربي، شمل معظم أجزاء الأمة، ومكن الصهاينة من العربدة في أكثر من عاصمة عربية. وقد آن موعد رحيل موسم الخريف، موسم الضياع والتمزق والتفتيت، ليعود لذاكرة النكبة، معنى الأمل بالعودة وحيازة الفلسطينيين لحقوقهم غير منقوصة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4276 - الخميس 22 مايو 2014م الموافق 23 رجب 1435هـ