تبرز الحاجة اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى، إلى تأكيد خيارات البشر، على مستوى الأمم والأفراد. خياراتهم في حياة حرة وطبيعية. خياراتهم في أن يحيوا بعيداً من الوصاية. خياراتهم في ما يعتقدون، وخياراتهم في الطريقة التي تُدار بها شئونهم. الخيارات التي إذا تم التلاعب بتفاصيلها، ومحاولة تعويمها أو تأجيلها؛ يعني ذلك فيما يعنيه تعويم وتأجيل حضور البشر، وترْك مصائرهم معلّقة، وفي تعليق المصائر، تعطيل للحياة والدور والهدف والقيمة والأثر الذي يمكن لهم أن يصنعوه، ويحدثوا فارقاً كبيراً في اللحظة التي يحيون، والمستقبل الذي يستشرفون. ومتى ما تمت الحيلولة دون ذلك، لا تختلف حيواتهم عن حيوات برسم الموت، هذا إذا صحّ أن يُطلق عليها صفة حيوات أساساً.

ما مناسبة كتابة كهذه؟ هل نحتاج مناسبة في العصْف الذي استمرأ الإنسان وجوده في دوائره المغلقة، وتياره المزلزل لاستقراره؟ هذا التكرار لإزاحة الاستقرار من تفاصيل الإنسان مؤدّاه استنساخ بيئات من المفترض أنها لا تمتّ إلى الإنسان بصِلة. بيئات تجدها هناك، في عالم الغاب بكل ما يضج به من شراسة لا تعرف حدوداً، وانقضاضاً لا يتوقف. طبيعة إنسان هذا العصر بما يحيط به من موجات استحواذ ودوائر مصادرة، تولّد لديه شعوراً بأن المنابع التي كان يرِدها تسبّب هو في جفافها وغوْر مائها، وهي ليست كذلك. هي هناك مليئة بالخير الذي يسع الجميع ويكفيهم، متى ما حُيّدت الأطماع، ووضعت حدود للاستيلاء الذي يحتوي كل شيء تقريباً؛ فيما الكثرة في هوامش من الحرمان والنسيان.

نعلم أن الاستقرار والطمأنينة مكلفة كي تتحقق. لا شيء من دون ثمن أو ضريبة؛ وخصوصاً فيما يتعلّق بما يمهّد للإنسان ظروف وأجواء إطلاق إمكاناته الإبداعية، وطاقاته التي لا تعرف حدوداً، إذا ما توافرت لها البيئات والأرضيات المناسبة. ثمن ذلك الاعتقاد والممارسة على الأرض في الوقت نفسه. الاعتقاد بألاّ قيمة لإنسان بعيداً عن المجموع البشري من حوله. ولا قيمة لإنجازه إذا كان على حساب الآخرين، أو من أجل أن يكونوا موضوعاً للاستغلال عبر ذلك الإنجاز، مع التحفّظ على مسمّى إنجاز على تلك الدرجة من الانتهازية والاستئثار!

ثمن ذلك أن البشر ما لم يصيروا إلى اتفاق يسبقه اعتقاد راسخ، بأن الطمأنينة لا تتجزّأ، والاستقرار لا يُبضَّع، فما يريده أي واحد منا من طمأنينة واستقرار، وفي الوقت نفسه يحول بينهما وبين الآخرين، لن يتأتى له ولو بذل ما بذل؛ إذ يظلان منقوصين، ومهدّدين من قبل الذين لم ينالوا حظاً منهما. ما لم يحدث ذلك، ستعيد الأمم، ومن خلال الأفراد، إعادة إنتاج القلق الذي لن يتيح لها فسحة من عطاء، وقدرة على البذل والإنتاج، وستكون مرتهنة إلى ما يقضّ مضاجعها، ويستولي على تفكيرها ويعمل على إرهاقها واستنزافها.

ثمن ذلك في جانبه المضيء، الأخذ بالإنسان أولاً عمراناً لروحه وقدراته، لينعكس ذلك على العمران البشري، والأخذ به من مرحلة التآكل والتراجع والركود، إلى مرحلة الازدهار والامتداد، بما ينعش أرزاق الناس ومعاشهم، ويسِم الحياة بالنشاط ووفرة الإنتاج، وتفتّق العقول عن المذهل من الملكات والعبقرية التي لن تهتز وتربو وتنبت كما تفعل الأرض بعد غيث السماء، والنأي بالناس عمّا يدفعهم إلى الانعزال عن بعضهم بعضاً، والتوجّس من بعضهم بعضاً، والتربّص ببعضهم بعضاً، وحياة على تلك الشاكلة إنما تفتح الشهية لكل خراب وفتن وسيادة القلق، وتحكّمه في مفاصل الحياة تلك.

وفي الوصول إلى استقرار جامع وطمأنينة في حدودها المسئولة عنها جهات بسدّ الحاجات والمنافذ والحقوق، توفّر الأمة، وكذلك الحال مع الأفراد، أضعاف ما يمكنها أن تبذله في ضرب استقرارها، وتنغيص الحيوات في محيطها. تماماً كما هو الحال في مقارنة كُلف الحروب والقلاقل والنزاعات، التي تعد بمثابة محارق عملاقة تبتلع من دون أثر يدل على اكتفائها والشبع، تستنزف الموارد والأرواح والتجانس والوئام الذي متى ما ضربت الأسافين فيه، سيكون عصيّاً استدراكه، والعودة به إلى حيث طبيعته والفطرة.

ومثل الأثمان والكُلف تلك، فيها ضياع موارد على الأمة هي في أمسّ الحاجة إليها لسد الحاجات، ورد الحقوق، والتي هي في كثير من الأحيان من أسباب اضطراب أحوال الناس، وشيوع الفتن بينهم، وتسيّد حال من التربّص، وشيوع القلق.