مثلت نكبة فلسطين العام 1948، وعجز الجيوش العربية المستقلة مجتمعةً آنذاك، عن مواجهة المشروع الصهيوني، كارثة الكوارث بالنسبة للعرب، في تاريخهم المعاصر. وقد أكدت أن العجز في ساحات القتال هو وجه آخر، للعجز عن التنمية. وكشفت أن الجندي المغيبة حقوقه هو أعجز عن تحقيق النصر. فكان أن نفخت روح التمرد والغضب.
ومن هنا جاء الرد، متمثلاً في طرح شعارات الاستقلال الوطني، والتنمية المستقلة، ومكافحة الفساد، وبناء جيوش عربية قوية. ولأن القوى الاجتماعية التي تقود عملية التغيير، ظلت كسيحةً أو مغيبةً، فإن المنطقة شهدت تحولات عمادها الجيوش، كانت أرض الكنانة هي المحطة الأولى في هذه التحولات.
ولأن طبيعة الاصطفافات الدولية، ونتائج الحرب العالمية الثانية، قد توجت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، على عرش الهيمنة في صناعة القرارات الأممية، فإن العالم انقسم في تحالفاته وتبعيته إلى معسكرين، وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الباردة، بين الأميركان والسوفيات.
وعندما تغيّرت الأوضاع السياسية في عدد من البلدان العربية، كمصر وسورية والعراق والجزائر والسودان واليمن، فإن الخريطة السياسية للنظم العربية، تشكّلت على مقاسات التجربة الدولية، والحرب الباردة التي كانت في ذروة تصاعدها في تلك الحقبة.
وكما انقسم العالم، إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي، انقسم العرب أفقياً إلى معسكرين متشابهين، بفارق أن الأصل، هم صناع القرار، أما نحن فلم نكن سوى صدى واهن للانقسامات بين المعسكرين. وفي حينه صارت الصراعات فيما بيننا محكومة بالوهم. وكان لذلك تأثيراته السلبية في النظام العربي الرسمي، والحركة الجماهيرية، مسبباً حدوث انقسامات أخرى، أفقية ورأسية بالواقع العربي. والترجمة الحقيقية لهذا الانقسام، هي مرة أخرى، كما أشرنا في الحديث السابق، أننا نستهلك ولا ننتج. واستهلاكنا في الأفكار، كان استهلاكاً شرساً.
قادت الانقسامات الجديدة، إلى صراعات اجتماعية وحروب محلية، وكانت نكسة يونيو/حزيران1967 ، هي ذروة العجز عن تشخيص الواقع، وإيجاد آليات عملية للتعامل معه. وقد أدت النكسة إلى نهاية مرحلة في التاريخ العربي، بدأت منذ مطالع الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت الأنصع في تاريخنا المعاصر.
وإثر النكسة، تقاسمنا الموقف من صراعنا مع الصهاينة، وانشطرنا شطرين: شطر غادر الرؤية التاريخية للصراع، ببعده الحضاري، الذي يرى في الصهيونية، إسفيناً غرس في قلب الأمة، ليفصل شطريها الآسيوي والإفريقي عن بعضهما، وليحول دون تحقيق وحدتها، وتحقيق نهضتها، وأن صراعنا مع الكيان الغاصب، هو صراع وجود.
أما الشطر الآخر، وقد أكد حضوره بقوة بعد معركة العبور في أكتوبر/تشرين الأول العام 1973، فرآى أن الصراع مع الصهاينة، هو صراع مرحلي، لابد من وضع حد له، بالاعتراف بالأمر الواقع، والعمل على تحسين الأوراق العربية والفلسطينية، من خلال التسويات السياسية. وكان هذا الانتقال استراتيجي، بكل ما تعني كلمة استراتيجية من معنى. فالصراع وفقاً لهذه الرؤية تحول من صراع وجود إلى صراع حدود.
وانقسم الفلسطينيون، ومعهم الحركة السياسية العربية في موقفهم من هذه التطورات، إلى رؤيتين: رؤية عدمية، تطرح تحرير فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر، وترى أن السبيل لتحقيق ذلك هي الكفاح المسلح. ولم تكن تحمل برنامجاً سياسياً، مرحلياً أو غيره، لتحقيق ذلك. ورؤية تصفوية، تفرط في كل شيء وتقبل بالمستوطنات، وتغيير الحدود، وإلغاء الذاكرة التاريخية، بما في ذلك حق العودة، وتتسامح تجاه يهودية الدولة الصهيونية، بما يضع المقدمات القانونية والعملية، لطرد بقية الفلسطينيين من وطنهم.
ورغم مضي أكثر من أربعة عقود، على هذه الحقبة التي استمرت طويلاً، بقي الطرفان، العدمي والتصفوي، متمسكين بموقفهما من غير تغيير. وكان للموقفين تبعاتهما على الانتقال الاستراتيجي للصراع، في عموم المنطقة، وتلك هي معضلة أخرى واجهها مشروع النهضة.
وحين هبّت الطفرة النفطية، منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، نقلت مجتمعاتنا من حال إلى حال. لكن المعضلة أن الطفرة، كما أشرنا في حديث سابق، نقلت اقتصاداتنا من أنماطها البدائية، إلى نمط الاقتصاد الريعي، الذي يأتي في شكل هبات من الأعلى إلى الأسفل. وقد نتج عن ذلك تحوّل المواطن من فرد منتج، وفقاً للسياقات التاريخية، قبل الطفرة الاقتصادية، إلى فرد ينعم بما توفره الثروة، وأدى ذلك لنشوء ثقافة الاستهلاك. وفي ظلّ هذا الواقع تخلّت الطبقة المتوسطة عن وظيفتها في الفنون والفكر والإبداع.
وقد قادت تحولات المجتمعات العربية، إلى النمط الاستهلاكي غير المنتج، إلى تحولات أخرى سلبية. كان لذلك تأثيراته المباشرة في البنية النفسية للمجتمع العربي. ففي الأسفل انعدم الإبداع وفقدت المبادرة. وفي الوسط، غاب الدور الريادي للطبقة المتوسطة، التي عرفت بممارسته في المجتمعات المتقدمة، وظلت في حيرة دائمة في ولاءاتها وانتماءاتها بين الأعلى والأسفل، واقتصر دورها على العمل بالقطاعات الخدمية، وملحقاتها. وأصبحت متماهية مع الواقع، وجزءاً لا يتجزأ من الواقع الذي طبع بصماته، على مختلف جوانب الحياة، حتى يومنا هذا.
والنتيجة، أن أفضل تعريف لسلوكنا هو المراوحة، بين الإقدام والتراجع، بين التريث والمغامرة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الجغرافيا والتاريخ. وذلك أمر طبيعي، فنحن لم نقطع مع الماضي، في بنية شبكة العلاقات القديمة، لكننا أصبحنا بالقوة خارج هذا الماضي، في أنماط حياتنا الجديدة، ولم نتجه بقوة نحو الحاضر. أصبحنا كما يقول المعتزلة بين بين. ومضى علينا أكثر من قرن، منذ بدأت طلائع عصر النهضة، في منتصف القرن التاسع عشر، ونحن تائهون لم نحدّد بعد دروبنا، لأننا لم نتحول بعد إلى منتجين.
لا مناص من إعادة الاعتبار للتلازم بين وظيفة النهضة ووظيفة الحضارة. فيستمر جدل العلاقة بينهما، كما في لحظات الصعود، تتقدم النهضة قاطرة الفكر، لتصيغ برامج المستقبل، وتخلق الحضارة مناخات جديدة للنهوض، فيتلازم البناء والعمل، مع ارتقاء مختلف مجالات العلم والمعرفة والفنون، ضمن متصور استراتيجي عربي شامل، يهدف للخروج من النفق الراهن، وصناعة المستقبل الأفضل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4255 - الخميس 01 مايو 2014م الموافق 02 رجب 1435هـ
لو أن سائر المسلمين...
بمن فيهم الفقير، والمحتاج، والميسور، والمسؤول، والغني، والأمير، والحاكم، وأصحاب السلطة، وصولاً إلى خادم الحرمين الشريفين... كالجسد الواحد... لانتصر الإسلام في دقائق!