في ظل الصراعات العربية العربية، وفي ظل حراكات الشارع السلمية وتلك العنيفة المنتشرة في عدة بقاع، يعيش العالم العربي واحدةً من أكثر مراحله صخباً وصعوبة.
الربيع العربي مرّ علينا بانفجارات مدوية، لكنه ما لبث أن دخل حيز الاستمرار بوسائل مختلفة وفي ظل مناخات جديدة متناقضة، فما وقع في 2010-2011 تحوّل إلى نزاعات واسعة في مناطق، وإعادة ترتيب أولويات ومساحات في مناطق أخرى من الوطن العربي. لهذا ليس غريباً أن تبرز مدارس مختلفة في التعامل مع الحالة العربية.
بعض المدارس العربية النابعة من قلب السلطة السياسية أو بعض أجنحة معارضاتها استمرت مؤمنةً بشدة بالمعادلات الصفرية، فهي تسعى للعودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل 2011، أو أنها تسعى لنسف الوضع القائم بشمولية، وهي لهذا تجد نفسها في حالة تناقض مع أفكار عصرية تزداد قوة وانتشاراً: كالحريات وحق التعبير وحرية التواصل الاجتماعي ووجود تنظيمات حزبية وطنية تتنافس بسلمية في قلب المجتمع، ومبادئ التناوب السلمي على السلطة.
المعادلة الصفرية التي تؤمن بها الأنظمة في شقها الأمني والتي تمارسها بعض المعارضات في شقها المتطرف تتحمل المسئولية الأساسية عن المصاعب التي واجهت الواقع العربي بعد الثورات، بل هي المسئول الأول عن سقوط بعض التجارب في مستنقع الصراع الأليم كما حصل في سورية منذ أن انطلقت الثورة (بسبب قمعية النظام)، وفي ليبيا عندما قرّر القذافي تصفية الثورة، أو كما حصل في مصر في مرحلة المجلس العسكري بعد الثورة ثم في مرحلة الرئيس محمد مرسي، وأخيراً مرحلة الجيش والمشير عبد الفتاح السيسي. وتشمل المعادلة الصفرية منطقة الخليج كما هو حال البحرين وبدرجة أقل في الكويت، إضافةً إلى انتشار قوانين صارمة في معظم الدول جوهرها عدم تقبل الاختلاف والحد من نشوء مجتمع مدني مستقل يخرج البلاد من معادلاتها الصفرية.
لو دققنا في الوضع العربي لوجدنا أن كبار التجار يخشون الجماهير ومطالبها، وأن كبار الأسر الحاكمة يخشون التعبيرات الشعبية والحزبية بأنواعها بصفتها تمهد لسلب السلطة، كما أن الأنظمة تخشى الحريات، بينما تخشى الجيوش من السياسيين والمعارضين بأنواعهم، وفي نفس الوقت تخشى المعارضات في شقها المسلح أو الأكثر تعصباً من بعضها البعض.
الحالة العربية مليئة بالخوف وضعف الثقة، فكل جزء يخشى من الآخر مما يقوي مناخ الاجتثاث في التعامل مع الاختلاف. فحتى الآن لم يطوّر العرب فكرهم الثقافي والسياسي التاريخي لينتج نظاماً سياسياً إنسانياً رشيداً ينطلق من مبادئ وحقوق رئيسية للإنسان، ويؤمن بدولة تحترم المواطن الحر والتداول السياسي العلني في ظل استقلال وطني يستند إلى حرية الشعب والمجتمع، عوضاً عن استقلال وطني هش معزول تحميه القوى الدولية وتوازناتها.
لقد مثّل الربيع العربي أول نقد للتجربة التاريخية للدولة العربية كما نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في كل من الأنظمة الجمهورية أولاً وفي الدول الملكية ثانياً، وعلى رغم وضوح الفارق بين دموية الأنظمة الجمهورية ووجود تواصل مختلف في الملكية، إلا أن هذا لا يعفي الملكية أبداً من آليات التطور السياسي الاجتماعي في الحريات ودور الطبقة الوسطى، ومكانة المشاركة الشعبية كمدخلٍ لتنمية المشروع الوطني.
ومن يعاين الحالة السياسية العربية التي تزخر بالتعصب والمعادلات الصفرية، سيتساءل فعلاً من أين ستأتي الأفكار الجامعة والرؤى التنموية؟ فهل كان من الحتمي أن ينتهي الأمر بالحبيب بورقيبة المؤسس الأهم للدولة التونسية والذي يعود إليه فضل تطوير الدولة الحديثة، في الإقامة الجبرية بعد عزله بانقلاب العام 1987 وحتى وفاته العام 2000؟ وهل كان من الحتمي أن ينتهي الحال بزين العابدين بن علي هارباً من بلاده لأنه جاء بانقلاب؟ هل كان من الحتمي أن ينتهي الرئيس حسني مبارك وأولاده في السجن والمحاكمة (لأنه ورث نظام السادات وسعى لتوريث حكمه لابنه)، أو أن ينتهي حكم مرسي المنتخب لأول مرة في تاريخ مصر في السجن والمحاكمة؟ وهل كان من الحتمي أن ينتهي القذافي وأولاده والذي جاء بانقلاب، أو أن ينتهي حكم صدام وأولاده، الذي جاء بانقلاب بالطريقة البشعة التي انتهت بها الأمور؟ وهل كان من الحتمي أن ينتهي الأسد الابن (الذي ورث حكماً صنعه انقلاب قام به قبله أبوه الرئيس حافظ الأسد) متحملاً مسئولية مقتل 150 ألف مواطن سوري ثم تدمير سورية؟
لو سئل كل مسئول وقائد عن سياسات الفساد التي كان بإمكانه أن يمنع حصولها، وحالة المحسوبية التي دمرت البلاد، وسياسات منع الحريات وإيقاف بوادر الإصلاح وإقصاء الإصلاحيين واتهامهم في وطنيتهم، ثم ضرب وتحجيم الطبقات الوسطى في ظل نظام ريعي يشجّع على الاتكالية والفساد... لعجز عن الإجابة.
لو سئل كل رئيس إن كان من الحكمة أن يبقى 40 عاماً أو 30 عاماً في الحكم أو لو كان من الحكمة أن يسعى لتوريث حكمه لابنه أو زوجته، ماذا سيقول بعد كل ما وقع؟ هل قرأ الكثير من مسئولي العرب التاريخ الإنساني وتاريخ الشعوب وتاريخ الأمم وأوروبا والحركات السياسية قبل أن يورّطوا أنفسهم والأمة في مثل هذه الصراعات الصفرية؟ وهل قرأت المعارضات الجديدة والقديمة، تاريخ الفاشية والنازية والحركات الدينية في أوروبا قبل أن تنتج وضعاً يشبه النظام الذي تمارس الثورة عليه؟
عندما ثار الملوّنون الأميركيون في الغرب الأميركي منذ بداية الخمسينات حتى أواسط سبعينات القرن العشرين، عارضهم قطاع كبير من التيارات السياسية على أساس عنصري وعرقي. وبينما ثار من الملونين من قالوا بالحراك السلمي بقيادة مارتن لوثر كينغ خصوصاً في مرحلة الستينات، برزت في الحركة الملونة الأميركية في أواخر الستينات مدارس أخرى عنيفة وإقصائية عُرفت بالقوة السوداء، مثل الفهود السود الذين قاموا بعمليات عسكرية ضد مواقع مدنية وعسكرية في الولايات المتحدة. وقد قامت القوات الأميركية بهجمات مضادة على شققهم ومخابئهم في الولايات المتحدة وفي مدن كبرى مثل مدينة شيكاغو. وفي ظل نفس الحركة السوداء قامت الجماهير السوداء الغاضبة بحرق أحياء كاملة في مدن أميركية كبرى.
لكن الأهم أن هذه الحركة، ببعدها السلمي مع مارتن لوثر كينغ وألوف التجمعات الصغرى واللجان العاملة لصالح المساواة والعدالة والحقوق، دفعت قادة الولايات المتحدة للاستماع لمنطق التغيير والقبول بحل وسط يخرج الجميع من المعادلة الصفرية. فقد تم عزل المتطرفين في الساحة الشعبية والسوداء، من خلال تقديم تنازلات جوهرية ورئيسية لكل الأطراف المتمسكة بالعمل السلمي من إضراب وتظاهر وتجمع ونشر واعتصام وتحزب وتنظيم.
لهذا فإن قرارات وقوانين الحقوق المدنية الأميركية الصادرة في أواسط الستينات شكّلت بدايةً لإصلاح النظام السياسي الأميركي، وسمحت للملونين بالسير في طريق المساواة والعدالة، لكنها وحدها لم تنقذ أميركا من الصراع الأهلي، بل كان لابد من تطبيق هذه القوانين بحذافيرها وتحويلها إلى واقع حقيقي. هذا لم يكن ممكناً بلا تنازلات رئيسية مست سلطة البيض المطلقة، وفتحت الباب ليس فقط للملونين بل لجميع الأقليات الأميركية القادمة من العالم الثالث. هذه القوانين الجديدة خلقت مناخاً للاعتدال السياسي. لقد تخلص الغرب من المعادلة الصفرية من أجل تطوّره، فقد كانت آخر المعادلات في الغرب نظام هتلر وموسوليني ونظام فرانكو الإسباني، ونظام البرتغال في الستينات، بالإضافة إلى النظام السوفياتي في شرق أوروبا.
المعادلة الصفرية متشابهة عبر الثقافات والشعوب، فهي معادلة استقواء وغلبة وسيطرة فئوية وطبقية وعائلية وطائفية وقبلية واحتكار حقائق، وهي معادلةٌ لا يمكن أن تنجح بلا تفرقة وعنصرية وفساد تشمل المال والأعمال وأصحاب النفوذ والأجهزة الأمنية والعسكرية. المعادلة الصفرية تمثل أعلى مراحل الاحتكار والتي تنتج شبيهاً لها في بعض التيارات المعارضة.
آن الأوان للتفكير بصورةٍ مختلفة. الرؤية غير الصفرية لديها أنصار في البلدان العربية، وهي في بداية نموها في بلدان كتونس والمغرب والكويت والبحرين وسورية ومصر وغيرها، ولديها قاعدة بين فئات مختلفة في كل الدول العربية بلا استثناء. فكرة الصفقة والمعادلة الجديدة وخلق وضع فيه فرصة لكل الأطراف، يتطلب تنازلات من الأطراف الأكثر سيطرة وقوة وتحكماً ونفوذاً. وهذا يعني في الجوهر أن الأطراف الأكثر قوةً يجب أن تتأقلم (قبل أن تفقد قوتها) مع معادلة جديدة تحفظ لها نسباً متفاوتة من مكانتها ودورها في عالم عربي يتعطش للعدالة والمساواة والمشاركة والتغيير، للغني والفقير لكن بشرط عدم اضطهاد الفقراء أو النيل من حقوقهم، لتداول السلطة بشرط عدم احتكار السلطة، للعائلات الحاكمة والشعب بشرط ضمان حقوق الشعب والسماح للحياة السياسية بالتطور بحرية، للأغلبيات والأقليات بشرط عدم النيل من حقوق الأقليات وعدم اضطهاد الأغلبيات.
أوطاننا غنيةٌ بأفرادها وشعوبها، ولديها إمكانيات وآفاق مازالت في طور الاكتشاف والتعبير. تغير المعادلة الصفرية مدخل رئيسي لتغير واقع يزداد صعوبة وعنفاً.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4248 - الخميس 24 أبريل 2014م الموافق 24 جمادى الآخرة 1435هـ
عجيي !!!
سيدي العزيز، هل نسيت بأن الصفر اختراع عربي؟ نحن قوم أصيل. لا ننسي تراثنا و قيمنا. منذ اختراع الصفر و نحن نأكل ، نشرب، نلبس، نعمل و نعيش صفر في صفر. ندوس علي كل شيئ و ننبش في تاريخنا لنجد أمورا لننبش بعضنا، نكفر بعضنا و نقدس بعضنا. حضارتنا تهميش الحي و تقدير الميت. يعني تقدير للصفر الذي اخترعناه.
عجيب
ردك