بعد مغيب شمس الامبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، وانهيار الاتحاد السوفياتي وتخلخل موازين القوى في حلبة الصراع الدولي والاقليمي وسقوط الواقع العربي القائم وتوظيف سياسات التطويع والتطبيع المختلفة على معظم دول الجوار الاقليمي لفلسطين، وتغييب دور العرب والمسلمين وكل الدول المحبة للسلام عن الساحة السياسية العراقية ومحاولات طمس الهوية الوطنية لشعوب المنطقة واجهاض ارادتها، وبروز الولايات المتحدة كقوة احادية عالمية مع دخول القرن الحادي والعشرين واندفاعها الجامح إلى شغل الفراغ الامبراطوري الذي خلفته بريطانيا، قامت اميركا وبريطانيا - بعناد يشبه عناد أي حمار وحشي - بأشرس عملية قرصنة وسطو عرفها عالمنا اليوم عبر غزوهما واحتلالهما العراق لسرقة خيراته وابتزاز دول المنطقة، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية التي تحدد العلاقات الدولية وكل النداءات التي اطلقها زعماء العالم وصيحات الشعوب المنددة بالحرب التي شنت على العراق انساناً ووطناً (لا حزباً وقيادة).
وقامت وهي تعيش أجواء التحشيد والتضليل وقرع نواقيس الحرب بازدراء وتحقير منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في ممارساتها وخطابها المتعالي على صوت الضمير العالمي أشبه بوحش منفلت من قيوده، شاهدنا في ذلك ما قاله بوش الصغير في خطابه العدواني الكريه قبل ان يشن حربه بأسابيع على العراق حينما تحدث عن الأمم المتحدة قائلاً: «إن منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ليسا اكثر من نادٍ للحوارات والمناقشات العقيمة بين ممثلي الدول، وإن عليها أن تتفرغ لمعالجة قضايا الجوع والفقر، وإننا ذاهبون إلى الحرب حتى وان لم نحصل على غطاء من الأمم المتحدة»، وكان دافعه الذي حجب عنه الرؤية الصحيحة «طمعه في نفط العراق» وغروره الأجوف وما توقع ان تحققه الشركات الاميركية من أرباح ومصالح، وإعادة التموضع في المنطقة لكي تكون لاميركا - التي سرق يمين اليمين المتصهين قرارها في معالجة القضايا العالمية - اسهاماتها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين في ليلة ظلماء...! والآن وبعد ان انجزت المهمة - مهمة السطو على شعب ووطن في العراق قولاً وفعلاً - ما الذي حصل لعسكرها الذين دمروا العراق وزعموا أنهم سيحققون الانتصار السياسي المأمول والمتوقع؟
وهل استطاعت أميركا وبريطانيا ومن لف لفهما من الدول الذيلية التي شاركت في الحرب ان تحقق ما كانت تصبو اليه من قرضتها وسطوها على العراق؟ وهل حققت النجاحات السياسية والعسكرية؟ وكيف أصبح الوضع الأمني في العراق والمنطقة؟ وماذا عن الكلفة البشرية والمالية؟ وما هو حال الجيش الذي كان يضحك وهو يتخندق تحت آخر خطوط نشوة الانتصار العسكري السريع الذي تحقق في بغداد؟ وأين هي رياح التغيير التي وعد بها اشبين الحرب على العراق رامسفيلد؟ ولماذا سقطت لغة العنجهية في الخطاب السياسي والاميركي صريعة بعد مرور ستة أشهر على غزو واحتلال العراق؟ وهل ربحت اميركا المعركة العسكرية والسياسية أم انها تمرغت في وحل المستنقع العراقي؟ واذا كان قادة البيت الأسود - الذين سرقوا السلطة في اكبر عملية خداع للشعوب الاميركية وفرضوا عليه ما لم يعرفه في التاريخ - يدعون بأنهم يحققون تقدماً على صعيد الاهداف المرسومة في العراق، فلماذا يتسولون القاصي والداني والأصدقاء والأعداء من أجل تقديم العون لهم؟ وما جدوى عودتهم الذليلة إلى منظمة الأمم المتحدة لطلب العون والمساعدة على تشكيل جبهة استعمارية عالمية تعينها على تطبيق برنامج النهب والسرقة المبرمجة للعراق؟ أوليست هي التي مارست الازدراء الأسود ضد هذه المنظمة؟!
وما الذي جعل اميركا أشبه بابن النبي نوح (ع) الذي كان في معزل ونصحه والده بالركوب في السفينة مع الجمع وترك الكافرين ولكنه استكبر وأبى كما استكبر اليوم بوش الصغير وقال سآوى الى جبل الصهاينة ليعصمني، على رغم انه يعلم لا عاصم لمن يزرع الرياح الصفراء من أمر الله الا من حظي بعنايته الإلهية؟
ان اميركا التي نعرفها هكذا تصرفت وتتصرف دائماً في كل الازمات التي دمرت فيتنام وطالبت المجتمع الدولي بإعمارها، وهي التي دمرت افغانستان وطالبت الآخرين النهوض بالأدوار الثانوية، ودمرت فلسطين وطالبت العرب والغرب ببنائها ولكن على جثث ابنائها واشهاد قبور شهدائها، وهي من حرق لبنان من أقصاه إلى أقصاه، واليوم واستمراراً لديونها دمرت العراق برياح التغيير الموعودة التي لم تثر إلا التدمير، ولذلك لجأت كعادتها إلى الاستخفاف بالعقل البشري طالبة أن تكون لها دول العالم سفينة نوح التي تنجيها من الغرق، وأن يكون أبناء البشرية خنادق ودشم عسكرية لتحقيق الأمن الشخصي لجنودها الغزاة. لكن على دول العالم وأعضاء مجلس الأمن من الدول الكبرى ان يتصدوا لها انتصاراً للقانون الدولي وقيم الحق والسلام والعدل، وان يعيدوا للقانون والضمير الدولي والأمم المتحدة هيبتها التي سحقت تحت حوافر حصان «الكاوبوي» الاميركي بعناد ومكابرة. فأميركا التي خسرت نفسها وكل شيء توقعته من غزوها للعراق قد خسرت صدقيتها وخسرت حينما توقعت ان نفط العراق سيكون بمثابة كنز «قارون»، وخسرت الاستقرار في المنطقة والعراق، واما على صعيد الخسائر المادية والبشرية فحدث ولا حرج، فالجيش الذي جاء فاتحاً أصبح أشبه بالطيور التي تنصب لها الأفخاخ العراقية، ويعيش حالاً من الضياع العسكري والدمار الأمني على المستوى الشخصي والنفسي، وما خفي أعظم... واليد الطولى التي كانت تحلم اميركا ان تكون مغلولة إلى عنق دول العالم والجوار بعد سطوها على العراق أصبحت كالسيف الخشبي المكسور، لا يستطيع ان يرد عن حامله ذبابة، ورياح التغيير الصفراء التي رصفت بها شوارع بغداد بالرعب وعبدت بها طرق المدن العراقية الأخرى بالدم كانت وبالاً على اميركا بعد أن ارتدت اغبرتها الصفراء على النافخين في كورها على قاعدة من يزرع الريح يحصد العاصفة. واما العراق فقد بقي شعباً ووطناً قوياً بوحدته وسطوة غيرته الوطنية على اميركا، وسيبقى قوياً بأوراقه الوطنية والاقليمية الكثيرة التي يستطيع اللعب بها وقت ما يشاء... فقد علمنا زمناً في العراق أن العواصف الصفراء والسوداء التى ستهب عليه كثيرة وقد شهد فيما مضى عواصف عصفت بالصحارى والبحار وسيشهد ما هو أعتى منها، لكنه سيخرج من قلب هذه العواصف جباراً منتصراً?
إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ