عودة الكاردينال الجديد جابريال الزبير من روما الى الخرطوم واستقبال حوالي نصف مليون سوداني له مرت علينا مرور الكرام في خضم الحوادث السياسية الكبرى التي يعج بها الأفق السياسي العربي المثخن بالجروح. إلا أنها عودة لها نتائج مهمة على الصعيدين الديني والسياسي، ليس في السودان وحده، بل في الوطن العربي وخصوصا في ملف الاقليات الدينية والعرقية.
وبعودة سريعة لأس الخبر والحدث نقول ان الفاتيكان في روما وخوفا منه على كرسي البابوية بعد رحيل البابا الحالي الذي يبدو أنه يكتب وصيته الأخيرة، قرر تعيين 31 كاردينالا جديدا من انحاء المعمورة في الدول التي تدين بالمذهب الكاثوليكي في روما. وتم اختيار هؤلاء الكرادلة بعناية فائقة ونتيجة لدراسات وتقص ومقابلات وترشيحات متعددة من بين المئات لشغل هذا المنصب الحساس في العالم الكاثوليكي اليوم. فهذا المنصب الديني (الكاردينال) يأتي مباشرة بعد منصب البابوية، أي أنه في الامكان لأي كاردينال تتوافر فيه الشروط التامة مستقبلا ان يتم اختياره من قبل طوائف المجتمع ليكون بابا الفاتيكان.
وللعلم فقط تم اختيار معظم هؤلاء الكرادلة الجدد من الكنائس الافريقية الكاثوليكية في محاولة كما يبدو للتكفير عما الحقه الغرب الأوروبي في القارة الافريقية طوال عهود الاستعمار واستغلال البشر والارض بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ حتى ايام الامبراطورية الرومانية قبل ظهور المسيحية. واذا كان نصيب الوطن العربي جانبه الصواب في جوائز نوبل هذا العام سواء في الاداب أو السلام، فان الفاتيكان عوضت هذا الجانب باختيارها للمرة الأولى كاردينالا عربيا من جنوب السودان وهو جابريال الزبير المسئول الأول عن الكنيسة الكاثوليكية في جنوب السودان والداعم الرئيسي لحركة المتمردين في الجنوب منذ اكثر من عشرين عاماً.
وهذا ليس تحليلا بل انه جاء ضمن حيثيات اختيار هذا الكاردينال العربي الوحيد «لأنه أيد ثورة قرنق وحربه ضد الحكومة السودانية الاسلامية».
ويذكر ان حركة التبشير في جنوب السودان انطلقت اساسا من الكنيسة الكاثوليكية في اثيوبيا منذ قرون وازدادت فاعلية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر خصوصا مع بدء حركة الكشوف الجغرافية الاستعمارية في العالم على يد الاسبان والبرتغاليين. وتولى البرتغاليون دعم كنيسة اثيوبيا ضد القوى الاسلامية الاثيوبية والارتيرية الاخرى فيما كان يطلق عليه مساعدة القس جون ضد «قوى الشر والكفر» في المشرق آنذاك لضرب العالم الاسلامي من الخلف.
فهل مازالت فكرة ضرب العالم الاسلامي من الخلف قائمة في المخيلة الأوروبية الدينية السياسية ام تحولت إلى سياسة اميركية مع وصول المتشددين الدينيين (المحافظون الجدد) كما يطلق عليهم الى قرار الحكم في الولايات المتحدة.
التاريخ علمنا وصراع الحضارات يشهد بذلك أن مثل هذه التحركات الدينية في الغرب، خصوصا بعد فصل الدين عن السياسة، صارت اكثر ارتباطا بالسياسة من قبل وصار كل عمل ادبي أو ثقافي أو ديني أو اقتصادي يرتبط بالسياسة وبالتوجهات السياسية لحكومات الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة. وما اختيار أول كاردينال عربي من منطقة حساسة مثل السودان وارتباطه بمصر وبالمجال الحيوي العربي دينيا وعسكريا في البحر الاحمر إلا تأكيداً لهذا التخطيط الذي بدأت تتضح معالمه تدريجيا على رغم أن الفاتيكان أعلن صراحة أيضا أن العدد الاكبر من الكرادلة الجدد هو من افريقيا فإن ذلك لا يعني أن البابا الجديد للكنيسة الكاثوليكية في العالم سيكون بالضرورة من افريقيا?
إقرأ أيضا لـ "محمد سلمان"العدد 424 - الإثنين 03 نوفمبر 2003م الموافق 08 رمضان 1424هـ