بات واضحاً في السنتين الماضيتين، أن عالمنا أصبح بالفعل متعدد الأقطاب، ولم تعد قيادته حكراً على الولايات المتحدة الأميركية بمفردها. والواقع أن ما حدث في كوكبنا، على الصعيد السياسي، منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، واستمر حتى ما قبل أعوام قليلة، هو استثناء في التاريخ الإنساني، حيث النظام الدولي، يحكمه صراع الإرادات وتوازن القوى، وتتشابك فيه كما تفترق المصالح.
وهكذا يتوازن العالم، ويعود إلى النمط الطبيعي الذي حكم التاريخ الإنساني، منذ أعرق الحضارات، ولتنتهي حالة النشوز والانفصام، التي لحسن حظ البشرية، لم تتعد العقدين من الزمن، من تاريخ طويل تعدى آلاف السنين، منذ عرفت البشرية الاجتماع الإنساني، وأشادت المدن والحضارات والإمبراطوريات.
الآن وقد أصبحت التعددية القطبية، أمراً واقعاً، لا جدال حوله، يطرح السؤال، ما الذي ينبغي على العرب، فعله تجاه هذه التطورات، والتي ستكشف الأيام المقبلة أنها أكثر عمقاً مما ظهر على السطح، ويترجم ذلك السعي الأميركي المحموم، للانسحاب من المنطقة المعروفة بالشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من أفغانستان، والتسليم لسياسات روسيا بالأزمة السورية، والحديث عن «جنيف-3»، لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، مخرج يعيد أمجاد روسيا القيصرية، والاتحاد السوفياتي، في مياه الأبيض المتوسط، والبحر الأسود ومضيق الدردنيل، حيث تمخر الأساطيل والبوارج الروسية.
يحتفظ الصراع الدولي الراهن، من صراعات الحرب الباردة بخاصيتين: صراع بين شرق وغرب، وصراع بين شمال وجنوب. فمنظومة «البريكس»، التي تمثل الكتلة الاقتصادية المتحدة، في مواجهة الاقتصادات الأميركية والأوروبية، هي روسيا والصين والهند، والثلاث دول تنتمي إلى الشرق في موقعها وفي ثقافاتها وانتماءاتها. الدولتان المتبقيتان، إحداهما هي جنوب إفريقيا، بمعنى وقوعها في جنوب القارة السمراء، والأخرى، البرازيل وتقع في أميركا الجنوبية.
الصراع الدولي أثناء الحرب الباردة حمل شكلين: شكل صراع عقائدي بين الشيوعية والرأسمالية، وشكل صراع بين الأغنياء والفقراء. لقد ساد تقسيمان: تقسيم عقائدي يشق العالم أفقياً بين شرق وغرب، وتقسيم رأسي يشق العالم، من الشمال حيث الأغنياء، إلى الجنوب حيث الفقراء. والتقسيم هذا لا يعني عدم وجود استثناءات، ولكنه يعنى هنا التمركز، بمعنى أين يتمركز الأغنياء، وأين يتمركز الفقراء.
وأي صراع في العالم، بحاجة إلى مؤسّسات تعبر عنه، وجدت لدينا مسميات مختلفة، تعبر عن مكنون التقسيم. فالشرق والغرب يتصارعان عقائدياً واقتصادياً وعسكرياً، وفي نطاق كل صراع هناك مؤسسات تعبر عن مصالح كل فريق، لكنهما يلتقيان عند تعبير الدول الصناعية، التي تمثل قاسماً مشتركاً بينهما .
في الجنوب، افتراق حاد عن الشمال، جعل منه عالماً ثالثاً، يضم الجزء الأكبر من سكان القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، التي تحظى بلقب تعويضي، يجعل منها «دولاً نامية»، بينما هي في واقعها غارقة في ظلام الفقر والبؤس. ورغم ما تحمله تعابير الاستقلال والسيادة، لدول العالم الثالث، لكنها جميعاً، ومن غير استثناء، انقسمت في ولائها وتبعيتها، لواحدة من الكتلتين المتنازعتين أفقياً.
الصراع الجديد، مختلف جوهرياً عن الصراع السابق، فرغم أن له صبغة ثقافية، يتخندق بعضه بسحر الشرق، ويتخندق الآخر بالإرث المسيحي، لكنه يخلو من الصبغة العقائدية. فحتى الشيوعية الصينية، لم تعد بالوجه الذي ساد أثناء حكم ماوتسي تونغ، فليست هناك دوغما، بل براغماتية مذهلة، جعلت من الصين تنيناً عاتياً، شقّ طريقه بقوة ليس لها نظير في التاريخ، في عالم الصناعة والمال. أما روسيا، فتخلت طواعيةً عن عقيدتها الماركسية، في تحوّل درامي مثير، أفقدها هيبتها وأحالها إلى دولة ضعيفة في قوتها الاقتصادية، إلى أن نهض بها قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، في ظروف تحولات دولية صار مؤكداً، أنها تسير ولمصلحته.
والنتيجة أن التنافس هو بين رأسماليين، وليس كما السابق، بين شيوعيين ورأسماليين. ذلك يعنى أن التحالفات العربية، سواء كانت مع الشرق أو الغرب، هي مع أنظمة سياسية من نمط اقتصادي وسياسي واحد، والتنافس الاقتصادي بينهما على الأسواق العالمية، أمر مشروع. والجانب الإيجابي فيه، أنه يتيح لنا الاختيار، بين أقطاب متماثلة، في أنماط حكمها واقتصاداتها وسياساتها.
كان الاختيار سهلاً أثناء الحرب الباردة، لأن له امتداداته الأيدلوجية والسياسية والاقتصادية. فمن أراد تطبيق الاشتراكية، سينتهج سياسة مؤيدة للسوفيات، وسيكون لذلك تأثيره في الاستراتيجيات العسكرية، ونوع التسليح. والحال هذه صحيحة على الدول التي تنتهج الطريق الرأسمالي. الاختيار سهل، ولكن النتائج خطرة، شقت الوطن العربي إلى معسكرين: معسكر مؤيد للشرق، وآخر مؤيد للغرب، ودخلنا في مواجهات وصراعات، أبعدتنا عن مواقع أقدامنا، وخسرنا الكثير من تلك الصراعات ليس أقلها هزيمتنا في حرب يونيو1967، التي أبعدتنا عن تحرير فلسطين، وتحقيق التكامل بين العرب، بمسافات فلكية.
لحسن طالعنا في هذه الحقبة، أننا لسنا مضطرين للدخول في صراعات بسبب تخندقنا مع الشرق والغرب، فجميعهم ينهلون من إنجيل آدم سميث المعروف بثروة الشعوب. وليس من مصلحتنا أن ننساق مع صراع المصالح الذي يحكم العلاقات فيما بينهم. فتنافسهم سيكون علينا، وليس لنا.
المنطقي أن تكون لنا علاقات متكافئة، مع أقطاب الصراع الدولي، من غير تمييز، إلا ما يخدم مصالح وتنمية بلداننا ويحقق الخير والأمن لنا. وكلما تعددت وتنوعت هذه العلاقات، توسّعت دائرة الاختيار، وأصبحنا أحراراً، غير مقيدين بالخضوع لإملاءات هذا الفريق أو ذاك.
واقع الحال، أن الانقسام بين البلدان العربية، في علاقاتها مع الغرب أو الشرق، هو رحمة لنا جميعاً، إذ إن الخطورة تكمن في وضع البيض كله في سلة واحدة. وسيكون مجدياً أن يكون ذلك جزءاً من استراتيجية عربية موحدة، إن أمكن ذلك، وليس اختياراً محسوباً على أساس المصالح الفئوية والقطرية. وسيبقى علينا متابعة ما يجري بالتأصيل والتحليل بعد جلاء الغبار، عن بعض ما يجري من تفاعلات وتحولات في الصراعات المفصلية الدائرة الآن، وبشكل خاص بين الأميركان والروس.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4234 - الخميس 10 أبريل 2014م الموافق 10 جمادى الآخرة 1435هـ
العالم العربي
عالمك العربي سوف يظل ويبقى تابعاً لمبررات كثيرة يصعب حصرها في هذا التعليق ولكن هناك حقيقة واضحة بأن المصالح الدولية منذ بداية تأسيس الخارطة الجغرافية والسياسية لمنطقة الشرق الأوسط التعيس قد قامت بتحديد معالم وإمكانيات هذه المنطقة وفق تلك الحدود التي رسمتها وهندستها بطريقة يستحيل الخروج أو التخلص من تلك التبعية السياسية والاقتصادية خاصة وأن عالمك العربي مؤهل بشكل عجيب في الانخراط في تلك التبعية الأبدية ..مع التحية س.د.