لابد لنا في سياق مناقشة «الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية» من أن نقوم بمحاولة مشتركة لضبط «مفهوم الحزب الديمقراطي» مقارنة بغيره من الأحزاب السياسية. ومن المفيد أن تأتي هذه المحاولة في بداية اللقاء السنوي الثالث عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية وربما قبله، وذلك من أجل التوصل إلى فهم مشترك أفضل لمفهوم الحزب الديمقراطي حتى يتمكن اللقاء من ضبط ذلك المفهوم ومن ثم النظر في مدى وجود الديمقراطية داخل الأحزاب في البلاد العربية من عدمه وفق معيار موضوعي يساعد أيضا على تحري الشروط اللازم توافرها في أي حزب حتى يكتسب صفة الديمقراطية هذه.
ومن أجل المساهمة في ذلك فإنني سأٌحاول من أجل استهلال المناقشة وإثارة الأسئلة وحفز الحوار، طرح الملاحظات الأولية الآتية:
1- صفة الديمقراطية: يمكننا القول إن صفة الديمقراطية لا يمكن اكتسابها بمجرد إضافة اللفظ والتشدق بالشعارات، وإنما هناك شروط موضوعية لاكتسابها. فهناك دولة وهناك دولة ديمقراطية، وهناك حزب وهناك حزب ديمقراطي، وهناك انتخابات وهناك انتخابات ديمقراطية، وهناك دستور وهناك دستور ديمقراطي، ولابد لنا من فحص المضمون والتأكد من المنهج قبل أن نطلق صفة الديمقراطية أو نحجبها.
2- اكتساب صفة الديمقراطية: وابتداء يمكننا القول إن صفة الديمقراطية يكتسبها الحزب مثلما تكتسبها الدولة عندما يتم تطبيق نظام حكم ديمقراطي في أي منهما. ونظام الحكم الديمقراطي نظام محدد المعالم يتطلب وجود منظومة كاملة ومتكاملة مع بعضها بعضا تتضمن، مبادئ ومؤسسات وآليات تضبط عملية تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة وتداول السلطة دوريا، وتؤكد حق وواجب الملزمين بتنفيذ تلك القرارات في المشاركة السياسية الفعالة في عملية اتخاذها.
3- القرابة بين الحزب والدولة: الحزب هو أقرب المنظمات الطوعية وغير الحكومية إلى الدولة، والحزب في الدولة الديمقراطية إما انه حكومة الدولة أو حكومة الظل فيها. فهو وسيلة الوصول إلى السلطة وأداة تداولها سلميا أو بالعنف وهو الحكومة أو المعارضة. ومهما اختلفت مسميات العصبية التي تجمع أعضاء الحزب الواحد من أفراد وجماعات، واتسع أو ضاق شمول عضويتها مختلف أفراد وجماعات المواطنين، فإن الأحزاب جميعها تسعى للوصول إلى السلطة. لذلك فإن ممارسة الديمقراطية داخل الحزب واتساع نطاق عضويته وشمولها المواطنين من دون تميز لسبب العرق أو الدين أو المذهب، إضافة إلى نظرته غير الإقصائية إلى غيره من الأحزاب أيضا هي اكبر الضمانات للممارسة الديمقراطية داخل الدولة عندما يصل ذلك الحزب إلى سدة الحكم فيها. والحزب الذي لا يؤسس على مبدأ المساواة بين المواطنين أو لا يمارس الديمقراطية داخله وفي علاقاته ببقية الأحزاب قبل الوصول إلى الحكم، يصعب إن لم يستحل عليه ممارسة الديمقراطية في الدولة التي يصل إلى الحكم فيها سلميا أو عن طريق العنف.
4- تأثير ديمقراطية الدولة على الحزب: وعلى رغم وجاهة الملاحظة الثالثة المشار إليها أعلاه وانطلاقها من القول المأثور فاقد الشيء لا يعطيه، فإن ممارسة الديمقراطية داخل أحزاب دولة غير ديمقراطية تسلطية تمنع قيام الأحزاب من حيث المبدأ أو تسعى إلى الهيمنة عليها أو إلحاقها بالحزب الحاكم المعلن أو المستتر في حال وجود عائلات حاكمة ملكية أو جمهورية، يمثل مانعا يقف دون إمكان نمو أحزاب ديمقراطية داخل نظام حكم غير ديمقراطي. فمن ناحية تميل الأحزاب السرية إلى الاعتماد على عصبية تثق فيها وتأتمنها، وتجعل من نفسها طليعة استراتيجية تعمل للوصول إلى الحكم عن طريق العنف بعد أن تعذر عليها الوصول السلمي. ومن ناحية ثانية تفقد الأحزاب الملحقة والمحتواة من السلطة صدقيتها، كما تواجه الأحزاب التي تحاول الاستقلال عن السلطة القائمة محاربة وتعطيلا لعملها وتدخلا في شئونها وربما التخلص منها بحجج ملفقة وأسباب واهية.
5- أحزاب العالم الثالث: ولعل ما يسمى بأحزاب العالم الثالث يشير إلى إشكال ممارسة الديمقراطية داخل أحزاب برزت واتسعت في غياب الديمقراطية داخل الدولة التي نشأت فيها. وأول فئة من تلك الأحزاب وأهمها هي حركات التحرر الوطني التي تبوأت سدة الحكم بعد الاستقلال واحتكرت السلطة بعد ذلك. وثانيها الأحزاب التي أٌنشئت بعد قيام انقلابات عسكرية ضد بنى سياسية تقليدية جامدة. وثالثها أحزاب قامت على أساس زعامات دينية أو طائفية أو قبلية أو مناطقية أو اثنية، تحمل داخلها في كثير من الأحوال بذور الانفصال وتقوم على الإقصاء من حيث العضوية. وكل هذه الفئات من الأحزاب نشأت في ظروف غياب الديمقراطية في الدولة التي برزت فيها، وقد كانت نشأتها تعبر عن حاجات وطنية أو اجتماعية أو فئوية، ولذلك حصلت على إجماع نسبي على أهدافها الأحادية البسيطة ضمن مجتمعها، مثل الاستقلال أو مقاومة الاستبداد أو الإقصاء أو الإهمال الذي يتعرض له الشعب كله أو جماعة أو فئة من فئاته. كما إنها تعتمد في العادة على قيادات تاريخية أو زعامات اجتماعية ودينية من دون أن تمارس الديمقراطية داخلها. وعندما تتحقق جزئيا تلك الأهداف الأحادية البسيطة وتتغير مشكلات المجتمع يصعب حصول تلك الأحزاب على ما كانت تصل إليه من إجماع. ولذلك تتحول بالتالي إلى أحزاب أفراد وزعامات، يتقلص الولاء الطوعي لها وتعتمد على الغلبة إذا كانت حاكمة، ويكثر الانشقاق فيها كلما اختلفت آراء الزعامات وتوجهاتهم أو تعارضت مصالح المنتسبين إليها إذا كانت خارج الحكم.
6- غياب الديمقراطية حتمي أم انتقالي: وإذا كانت البلاد العربية هي جزء من العالم الثالث فهل ظاهرة غياب الديمقراطية داخل أحزاب البلاد العربية بشكل عام يمكن تفسيرها في ضوء ظاهرة أحزاب العالم الثالث؟ وهل ظاهرة ما سمي بأحزاب العالم الثالث هي ظاهرة انتقالية يمكن تجاوزها إلى بناء أحزاب ديمقراطية؟ ما الخبرات التاريخية في دول العالم الثالث وكيف نجح بعضها في بناء أحزاب ديمقراطية؟ أم إن ظاهرة غياب الديمقراطية في أحزاب البلاد العربية هي جزء من استمرار غياب الديمقراطية في الدولة من ناحية. ومن ناحية أخرى غيابها في المجتمع الذي لا تنعقد في العادة، الزعامة فيه إلا لصاحب غلبة وثروة أو مكانة اجتماعية أو مقام ديني، والذي لا تعدو فيه غالبية أحزاب اليوم أن تكون امتدادا لتشكيلات وراثية من قبلية أو طائفية أو اثنية؟
الدولة الديمقراطية
كما سبقت الإشارة فإن اقرب مؤسسة إلى مؤسسة الحزب - مع الفارق- هي الدولة. والحد الأدنى لاكتساب الدولة المعاصرة صفة الديمقراطية يتمثل في وجود المبادئ والمؤسسات والآليات الآتية:
7- 1 ألا تكون في الدولة الديمقراطية من حيث النص وعلى أرض الواقع سيادة لفـرد أو لقلة من الناس علـى الشعب.
7-2 الأخذ بمبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. السياسية والقانونية على الأقل.
7-3 التوافق على شرعية دستور ديمقراطي. والدستور الديمقراطي هو تعاقد مجتمعي متجدد وليس منحة أو مكرمة أو ما هو اقرب إليهما. ولذلك فالدستور الديمقراطي لابد أن يكون عقد تتم مناقشته وإقراره بحرية من قبل جمعية تأسيسية، منتخبة، سواء تم عرضه على استفتاء شعبي أم لم يتم. كما لابد للدستور الديمقراطي من أن يرتكز على أركان عامة مشتركة من حيث النص والتطبيق على ارض الواقع. أولها: الشعب مصدر السلطات. ثانيها: سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه. ثالثها: عدم الجمع بين السلطات الثلاث في يد شخص أو مؤسسة واحدة. رابعها: ضمان ممارسة الحريات العامة. خامسها: تداول السلطة وفق آلية انتخابات دورية حرة ونزيهة.
يذكر أن تلك المبادئ والمؤسسات والآليات هي ضوابط رسمية وقانونية للممارسة الديمقراطية، تتوقف أهميتها وفاعليتها على حقيقة تطبيقها على أرض الواقع.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يتطلب استقرار العمل بنظام الحكم الديمقراطي وجود قناعات لدى التيارات والقوى الفاعلة إلى جانب المواطن، بإمكان تطبيقه وأيمان بأهمية ذلك. ولابد لتلك القناعات وذلك الإيمان من النمو، وان يترسخا في النفوس إلى جانب النصوص تدريجيا. هذا حتى تصبح الممارسة الديمقراطية خلقا حميدا والديمقراطية قيمة اجتماعية يضبطها وعي اجتماعي ومجتمع مدني فاعل ورأي عام مستنير، تستطيع جميعها أن ترتقي بالممارسة الديمقراطية عبر عملية التحول الديمقراطي الطويلة والشاقة، من الشكل إلى المضمون الذي يكرس أسلوب الشفافية والصدقية ويعوّد جميع أطراف العملية الديمقراطية على تداول الرأي بتأن وأخذ مصالح الآخرين بإنصاف، قبل اللجوء إلى التصويت على القرارات وتحديد الخيارات العامة من قبل المفوضين بذلك.
8- الحزب الديمقراطي: وفي ضوء التشابه بين مقومات وضوابط نظام الحكم في الدولة والضوابط الحاكمة لإدارة الأحزاب - مع وجود فوارق- يمكننا القول إن المبادئ والمؤسسات والآليات التي يلزم وجود حد أدنى منها في الحزب حتى يكتسب صفة الديمقراطية يمكن إجمالها فيما يأتي:
8-1 ألا تكون في الحزب سيادة على أعضائه، من قبل زعيم أو عائلة أو صاحب صفة دينية أو طائفية أو قبلية لها حق أو عرف ثابت يكرس موقعها في القيادة.
8-2 أن تكون العضوية بضوابطها الديمقراطية هي وحدها مناط الواجبات ومصدر الحقوق الحزبية.
8-3 أن تكون العضوية في الحزب - من حيث المبدأ- مفتوحة لجميع المواطنين من دون إقصاء أو تميز من حيث العرق والدين والمذهب، وان يكون اكتساب العضوية متاحا - من حيث المبدأ- لكل من اكتسب صفة المواطن في الدولة.
وهذا المبدأ قد يثير إشكالا لدى الأحزاب الدينية والطائفية والاثنية والمناطقية والطبقية. لذلك فهذا الإشكال لابد من مقاربته حتى يمكن للأحزاب أن تتداول السلطة سلميا، عندما يكون انتقالها هو انتقال من الشبيه إلى الشبيه، إذ يتعذر انتقال السلطة سلميّا من النقيض إلى النقيض عندما يكون هدف أحد الأحزاب هو إقصاء الحزب الأخر وليس تداول السلطة معه سلميّا.
8-4 أن يحتكم أعضاء الحزب في علاقاتهم الداخلية إلى شرعية دستورية متجددة يتوافقون عليها ابتدءا، في ضوء ارتكازها على الأركان التي سبق الإشارة إلى أنها تكسب الدستور صفة الديمقراطية، وهذه يمكن تلخيصها في الآتي: أولا: أن يكون أعضاء الحزب هم مصدر السلطة في الحزب ولا وصاية لفرد أو قلة من أعضاء الحزب أو غيرهم على قرار الحزب. ثانيا: سيطرة نظم الحزب ولوائحه والمساواة أمامها بين أعضاء الحزب في ضوء قانون الأحزاب ودستور الدولة. ثالثا: عدم الجمع بين السلطة التنفيذية في الحزب والسلطة التشريعية التي يملكها مؤتمره العام المنتخب انتخابا دوريا حرا ونزيها، هذا إلى جانب وجود شكل من أشكال المحكمة الحزبية الدستورية المستقلة يعود إليها الفصل في الشئون الحزبية بين أعضاء الحزب وأطيافه الداخلية قبل اللجوء إلى القضاء في الدولة وربما تكون صفة المحكمة الحزبية الدستورية مثل صفة هيئة التحكيم التي تلزم أعضاء الحزب بقرارها إذا اتخذت الإجراءات القانونية والتنظيمية السليمة لتشكيل تلك المحكمة وضمان استقلالها. رابعا: ضمان حرية التعبير في الحزب وإتاحة الفرصة لنمو التيارات والأطياف داخل الحزب وأخذها أشكالا معترفا بها داخليا، من أجل نمو الأحزاب وبلوغها مستوى الكتلة المؤثرة عندما تسمح بالتعدد داخل الوحدة، وتقضي على أسباب التفتت والانشقاقات. خامسا: تداول السلطة في الحزب وفق آلية انتخابات دورية حرة ونزيهة من القاعدة إلى القمة. سادسا: قبول الحزب لوجود غيره من الأحزاب وضبط فكره ومنهجه وبرنامجه في ضوء حق الرأي والمصلحة الأخرى في التمثيل من دون إقصاء أو احتواء بالترهيب أو التغيب والإنكار، بما في ذلك حق التنافس للوصول إلى السلطة وتداولها سلميا بين الأحزاب، وواجب الدفاع عن حق الأحزاب الأخرى في الوجود والتعبير.
جديرٌ بالتأكيد في حال الحزب أيضا أن تلك المبادئ والمؤسسات والآليات هي ضوابط رسمية وقانونية من أجل الممارسة الديمقراطية تتوقف أهميتها على تطبيقها على أرض الواقع كما تم تأكيد ذلك في حال الدولة أعلاه.
وجدير بالذكر والتأكيد أيضا أن الممارسة الديمقراطية في الأحزاب كما هي في الدول مسألة نسبية، هناك حد أدنى من المبادئ والمؤسسات والآليات يجب وجودها في الممارسة حتى تتصف بالديمقراطية، وبعد التأكد من وجود هذا الحد الأدنى يبقى الفرق واردا وأحيانا كبيرا بين الممارسات الديمقراطية في الحزب وفي الدولة من حيث درجة النضج والاستقرار ونوعية الديمقراطية وفرص الارتقاء بها.
9- التشابه مع الفارق بين الحزب والدولة: وعلى رغم تشابه مقومات وضوابط نظام الحكم الديمقراطي في الدولة مع المقومات والضوابط الحاكمة لإدارة الحزب الديمقراطي، فإن هناك فوارق في حدود سلطة كل منهما من عدة أوجه: أولها: أن علاقة الحزب بأعضائه علاقة طوعية اختيارية، بينما علاقة المواطن بالدولة هي علاقة وراثية عضوية. ثانيها: أن الدولة تحتكر العنف وتفرض إرادتها على مواطنيها وفقا للقانون في الدولة الديمقراطية، بينما الحزب لا يحتكـر العنف ولا يجـوز لـه اللجوء إليه لتنفيذ القانون على أعضائه وإنما يخضع الحزب وأعضاؤه على قدم المساواة لقوانين الدولة عموما وقانون الأحزاب خصوصا. ثالثها: أن الحزب جزء من كل في الدولة ويمكن أن تنمو عضويته أو تتقلص بحسب قناعة المواطنين بتوجهاته وببرنامجه. أما الدولة فان حجم مواطنيها أكثر ثباتا وليس أمامهم إلا إصلاح الدولة حتى تصلح أحوالهم العامة والخاصة، بعكس العلاقة الطوعية في الحزب الذي يجد العضو منه بدا إذا لم تتحقق من خلاله طموحاته وتراعى مصالحه. رابعها: الدولة بحكم امتلاكها السيادة على إقليمها هي اقصائية لسيادة غيرها من الدول على إقليمها. أما الحزب في علاقته بالأحزاب الأخرى، فهو جزء من كل ولا يجـوز لـه إقصاء وجهات النظر والمصالح الأخرى وإنما يتنافس معها، فهي شريكة معه على قدم المساواة. خامسها: يخضع الحزب لقانون الأحزاب في الدولة وتشرف أجهزة الدولة المختصة على الحزب وإدارته وأمواله ونشاطاته وفقا للقانون. ومن هنا فإن قانون الأحزاب في الدولة وكيفية الإشراف على تطبيقه يمكن أن يكون ذا تأثير إيجابي أو سلبي على ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب. أما الدولة فإنها ذات سيادة تجاه الخارج، ولم يصل تدخل المجتمع الدولي بعدُ إلى حدّ المتابعة والإشراف الإداري على تطبيقها المواثيق والاتفاقات الدولية التي صدقت عليها. وبالتالي فإن الممارسة الديمقراطية داخلها تتوقف على عوامل داخلية بالدرجة الأولى، أما الأحزاب فإن مدى تدخل الدولة القانوني في شئونها أكثر تأثيرا على أدائها الديمقراطي.
10- أزمة الأحزاب في الدول الديمقراطية: وفي ختام هذه الملاحظات الأولية عن مفهوم الحزب الديمقراطي الذي ننشد وجوده ونسعى إلى التعرف على شروط ذلك ، يجب ألا تغيب عن بالنا أزمة الأحزاب في الدولة الديمقراطية أيضا ، ولا النقد الإيجابي والبناء في سياق الدعوة إلى إصلاح الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية. وفي هذا الصدد هناك نوعان من النقد:
10-1 النقد التاريخي الذي يقول بقانون الاولجارشية الحديد في الأحزاب، مثلما هو موجود في الدولة أيضا، وبالتالي استحالة قيام حزب ديمقراطي. وهذا النوع من النقد مثله مثل النقد الذي شكك في قيام ديمقراطية سياسية قبل قيام ديمقراطية اقتصادية واجتماعية. وهو نقد وارد وصحيح إلى حد كبير و في مجمله مفيد من حيث سعيه إلى التنبيه إلى خطورة السيطرة على الأحزاب من قبل قياداتها بل بيروقراطيتها، وكذلك تأكيد ضرورة الارتقاء بالممارسة الديمقراطية في الدولة وداخل الأحزاب وفيما بينها. إذ يشير هذا النقد إلى أن الممارسة الديمقراطية على أرض الواقع تحتاج إلى توفير مصادر المشاركة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات العامة، إلى جانب الحق السياسي والقانوني الذي ينص على مشاركة الملزمين بتلك القرارات والخيارات العامة في اتخاذها. وإيجابية هذا النقد تكون في التنبيه إلى ضرورة توفير شروط المشاركة السياسية الفعالة على مستوى الدولة ومستوى الأحزاب وضبط عملية اتخاذ القرار بمبادئ الديمقراطية ومنهجها. وحتى يتم ذلك فإن الديمقراطية السياسية والنص القانوني على الحق فيها وكذلك الديمقراطية النسبية داخل الأحزاب، تبقى مدخلا ضروريا لتنمية الديمقراطية والارتقاء بها، فما لا يدرك كله لا يترك جله.
10-2 النقد المعاصر الموجه إلى ظاهرة تزايد وقوع أحزاب الدول الديمقراطية في أيد بيروقراطية الأحزاب التي أصبحت تعتمد على مهني الانتخابات وصناعة الرأي العام من خلال توظيف العلاقات العامة. وكذلك يوجه النقد إلى الأحزاب بسبب تزايد دور الشركات المتعددة الجنسية وإمبراطوريات المال والإعلام في دعمها والتأثير على توجهاتها. هذا إضافة إلى تزايد العوامل الخارجية وتدخل الدول ذات النفوذ في الحياة السياسية الوطنية. الأمر الذي أدى إلى ابتعاد الأحزاب السياسية بشكل عام، عن الاعتماد على أعضائها وصرف نظرها عن ضرورة توسيع عضويتها والارتقاء بالممارسة الديمقراطية داخلها. والى جانب ذلك تزايد أيضا في الدول الديمقراطية عدد وتأثير، ونما دور ما يسمى أحزاب الانتخابات Electoralist parties التي ترتكز دعوتها إلى تولي السلطة على جاذبية شخصيات تستقطبها، أو برامج مصنوعة بعناية ومهنية إعلامية لكسب الأصوات، إلى جانب أحزاب انتخابات أخرى ينطبق عليها التعبير الشعبي المصري «بتاع كله» Catchall. وقد أدى تحول اتجاه الأحزاب في الغرب تاريخيا من أحزاب النخبة إلى أحزاب الجماهير إلى أحزاب الفرصة إلى أحزاب الانتخابات أخيرا، إلى تناقص عضوية الأحزاب السياسية وتراجع دور الأحزاب من حيث إدماج المواطنين في الحياة السياسية كما قلّ حرصها على الارتقاء بالممارسة الديمقراطية وزيادة امتلاك المواطنين مزيدا من مصادر المشاركة السياسية الفعالة.
ومع صحة هذا النقد نسبيّا وخطورته على الديمقراطية نفسها فإن هناك إجماعا على مركزية دور الأحزاب في نظم الحكم الديمقراطية نتيجة عدم وجود بديل لها يستطيع أن يؤدي الوظائف الآتية:
أ) تعبئة المواطنين وتفعيل دورهم السياسي وإدماجهم في الحياة السياسية.
ب) تحري المصالح المشتركة والتوفيق بينها وجمع المواطنين حولها.
ج) التعرف على السياسات العامة وبلورتها في برنامج سياسي قابل للتنفيذ.
د) تجنيد القادة السياسيين وتنمية قدراتهم على حكم الدولة وإدارتها. وعلى رغم بروز عدد من تنظيمات المجتمع المدني المنافسة للأحزاب في القيام ببعض وظائفها، فإن الأحزاب تبقى وحدها المؤهلة للوصول إلى السلطة وتداولها من دون غيرها من المنظمات غير الحكومية. وستبقى الحاجة إليها قائمة والدعوة إلى إصلاحها وتأهيلها للقيام بدورها المركزي في نظم الحكم الديمقراطية دعوة جادة ومسئولة وفي محلها.
ومن أهم تلك المؤهلات التي تجعل الأحزاب السياسية قادرة على الارتقاء بالديمقراطية هو اتساع عضوية الأحزاب واعتمادها على أعضائها، وتزايد قدرتها على إدماج المواطنين أفرادا وجماعات في الحياة السياسية فعلا وليس مجرد السعي للحصول على أصواتهم. هذا إلى جانب تعزيز مسئوليتها الوطنية ورعايتها للمصالح العامة فضلا عن عملها الدؤوب من أجل إرساء الممارسة الديمقراطية داخلها وفيما بينها وداخل الدولة والارتقاء بها أيضا.
وفي ذلك تتساوى حاجة الدول الديمقراطية والدول التي تنشد الديمقراطية إلى وجود أحزاب وطنية ديمقراطية فيها. وما النقد الموجه إلى الأحزاب في الدول الديمقراطية تاريخيا وحديثا إلا دعوة من أجل إصلاحها على قاعدة الديمقراطية والارتقاء بها حتى يتحقق مزيد من الممارسة الديمقراطية داخلها من حيث النوع إلى جانب الكم، حتى يتم عبور الديمقراطية بسلام من حقبتها السياسية الراهنة التي تغلب عليها الإجرائية، إلى حقبة يمتلك فيها المواطنون أفرادا وجماعات مصادر المشاركة في عملية تحديد الخيارات و اتخاذ القرارات من قبل الملزمين بتطبيقها، ويبرز دورهم في تحديد مضمون الديمقراطية إلى جانب ضبط منهجها
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 422 - السبت 01 نوفمبر 2003م الموافق 06 رمضان 1424هـ