حسناً، عمتم مساء. كانت هذه آخر عبارة سجَّلها برج المراقبة من قمرة القيادة، للطائرة الماليزية المفقودة، بعد أن أبلَغَ طاقمها، بأنكم تستعدون لمغادرة المجال الجوي الماليزي. العبارة لم يقلها الطيار الرئيس للرحلة ظاهري أحمد شاه البالغ من العمر ثلاثة وخمسين عاماً، بل مساعده الشاب فريق عبد الحميد ذي السبعة وعشرين عاماً.
في كل الأحوال، اختفت طائرة البوينغ 777 التي كانت تقوم برحلة بين كوالالمبور وبكين مُرمَّزَة بـ إم إتش 370، واختفى معها مئتان وتسعة وثلاثون من البشر كانوا على متنها. الخَطْبُ كبير. نحن نقرأ الرقم 239 كإحصائية، لكن أهالي الضحايا يقرأونه بشكل مختلف. إنهم يرونه: أبناء وآباء وأمهات وأخوات وأخوال وأعمام كلٌ له بصمة في الروح.
قد تنشغل شركة البوينغ كجهة مُصنِّعة، في دراسة أنظمة اتصالات الطائرة، ونظام السلامة فيها. وقد تعكف شركة الرولز رويس على توصيف محركاتها الضخمة والآمنة، وقد تنشغل أجهزة الاستخبارات في دول عدة، بتفتيش بَيْتَي الطيار ومساعده، وباستجواب طاقم الصيانة وتبادل المعلومات، لكن يبقى أهالي الضحايا في كَمَدٍ ودمع، وهم في هذا المصاب المفتوح. فذووهم ليسوا أحياء ولا هم أموات! إنها لحظات التِّيه.
ترقيم الركاب حسب المعلَن المتباين هم 239 راكباً، بينهم 12 من طاقم الطائرة، و153 صينياً، و38 ماليزياً، و12 إندونيسياً، وأربعة استراليين، وأربعة أميركيين، وثلاثة فرنسيين، ونيوزلنديان، وأوكرانيان، وكنديان، وروسي وإيطالي وهولندي ونمساوي وآخر من تايوان، ومن بين الضحايا أيضاً رضيعان. أربع قارات من قارات العالم هي في «مصاب دم» مباشر.
عندما قيل بأن مسار الطائرة قد شُطِرَ على أحد احتمالين، مسار شمالي وآخر جنوبي. ظَهَرَ ومن خلال الخرائط التي يوفرها «غوغل» عبر الأقمار الصناعية، أن مجال البحث عن الطائرة سيمتد من شمال تايلاند إلى آسيا الوسطى وجزء من الصين، ومن إندونيسيا إلى جنوب المحيط الهندي، الذي ستزيد مساحة البحث فيه عن 600 ألف كلم مربع».
وإذا ما تقرّر التوسّع في عملية البحث في المحيط الهندي، فهذا يعني أن هناك أقصى عمق في المحيط يبلغ 7258 متر، ومتوسطه ما بين 3890 و4200 متر! إنه أمر مهول. وهو ما يجعل كثيرين يشعرون باليأس من عمليات البحث، ويعتبرونه مجرد «كتابة على الماء» حتى مع وجود خمسة وعشرين دولة، سخَّرت طائراتها وأساطيلها للبحث عن الطائرة.
قبل بعضة أعوام، كنتُ في زيارة عملٍ خارج المملكة. وخلال إحدى جلسات الراحة، تحدث أحدهم وقد بَلَغَ من العمر عِتِيّاً عن الطيران. ولكونه كان يعمل في مجال الملاحة الجوية، فقد كانت لديه خبرة جيدة، وقدرة على الوصف. وكلما أسهب في الحديث عن المشاكل التي عادةً ما تحصل في الجو، دون أن يعلم بها الركاب المساكين، كنتُ أصاب بالخوف.
قال له الجميع وهم يضحكون لكن قلوبهم تكاد تخرج من صدورهم من الخوف: سامحك الله. كنا نطير ونهبط وننام في رحلاتنا إلى الخارج (وهو باعتقادي حال ثلاثة ملايين مسافر في هذا العالم يقطعون الفيافي يومياً) ونحن مطمئنون، دون أن نعرف كل تلك التفاصيل، عن المشكلات التي قد تقع، سواءً لمحركات الطائرة، أو لنظام الأكسجين، أو لهندسة الطرق الجوية، التي يجب أن تكون دقيقة، منعاً لوقوع أي تصادم في الجو.
في كل الأحوال، وفي غمرة هذه المأساة، التي رافقت حادثة الطائرة الماليزية، لا تنتهي السياسة من تدخلاتها. فما لفتني من كل ما قيل، هو تصريح لرئيس لجنة الأمن الداخلي في مجلس النواب الأميركي مايكل ماكول خلال مقابلة له مع شبكة «فوكس نيوز» قال فيه، بأن الطائرة الماليزية «تمكنت من الهبوط في مكان ما، ويمكن أن تكون خُطِفَت وخُبِّئَت على أن يعاد استخدامها لاحقاً مثل سلاح تدميري قوي».
ورغم أن ماكول قال: «انطلاقاً مما أعرف، ومع كل المعلومات التي اطلعت عليها على مستوى عالٍ عبر وزارة الأمن الداخلي والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب وأوساط الاستخبارات، فإن هناك أمراً يتعلق بالطيار»، بعد أن تبيَّن أن «مسار الطائرة المفقودة تغيَّر بشفرة مُبرمجة من داخل قمرة القيادة بفضل البرنامج المعلوماتي الذي يستخدمه الطيارون»، إلاَّ أن الماليزيين لازالوا ممتعضين من التعاون الأميركي معهم، كون كوالالمبور لا تعرف ما لدى الأميركيين من معلومات (رغم اتصالاتها الدائمة معها) حسب تصريح وزير الدفاع والقائم بأعمال وزير النقل الماليزي هشام الدين حسين! فهل تصل الأمور إلى الحد في الخلط ما بين المصالح وبين الاهتمام بالأرواح المفقودة؟
عندما سقطت طائرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الصحراء الليبية بعد قرار الهبوط الاضطراري في مطار السارة، وانقطاع أي أثر للرئيس ومَنْ معه، طلبت منظمة التحرير الفلسطينية مساعدة عاجلة من الاستخبارات الأميركية لتحديد موقع سقوط الطائرة. وفي غضون دقائق، تم تزويد المنظمة بمكان أبي عمار ومرافقيه.
نحن اليوم، يفصلنا عن لحظة سقوط طائرة أبي عمار، واحد وعشرون عاماً وتسعة أشهر. وخلال تلك الفترة تضاعف التقدم الاستخباراتي والتكنولوجي عند الأميركيين مئات المرات عن السابق، الأمر الذي يجعلهم يعلمون ما يجري حتى في كهوف جبال تورا بورا. هذا الأمر مدعاةٌ للتساؤل بحق.
في المحصلة، وبعيداً عن السجال على الورق، أو في مماحكات السياسة، الألم كبير. وربما استحضر الجميع مأساة أهالي «الضحايا المفتَرَضين»، لكننا نسينا أن نستحضر لحظات مَنْ كانوا على مَتن الطائرة، وهم في ظرفهم الجوي الصعب، إن كانوا في حالة خطف أو أنهم هَوَوا إلى قاع المحيط المظلم كاحتمال. هنا، أتذكر ما قاله الأديب الأميركي، الروسي المولد، إسحاق عظيموف «الحياة مُحبَّبَة والموتُ هادئ، ولكن المشكلة هي الانتقال».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4214 - الجمعة 21 مارس 2014م الموافق 20 جمادى الأولى 1435هـ
Dead right
تحت السواهي دواهي: تضاعف التقدم الاستخباراتي والتكنولوجي عند الأميركيين مئات المرات عن السابق، الأمر الذي يجعلهم يعلمون ما يجري حتى في كهوف جبال تورا بورا. هذا الأمر مدعاةٌ للتساؤل بحق.
جميل
مقال جميل .. إنساني بحت و يمس القلب .. بوركت
يا لضعف الانسان ووهنه وقلة حيلته وعلمه
حتى الجسمين الذي قالوا أن الاقمار الصناعية رصدته في المحيط الهادئ لم يعثروا عليهما! يا لضعف الانسان ووهنه وقلة حيلته وعلمه