في أواخر الشهر الماضي، تقدم نائب في الكنيست الإسرائيلي، يدعى موشى فيغلين، باقتراح سحب الوصاية الأردنية عن المسجد الأقصى، وإخضاعه لسيادة دولة الاحتلال. وتأتي هذه الخطوة بعد اقتحامات متكررة من زعماء العصابات الصهيونية للحرم القدسي، بدأت منذ أن تم احتلال المدينة المقدسة في حرب يونيو/ حزيران 1967، وتواصلت حتى يومنا هذا. وتتزامن أيضاً بمطالبات من قبل المتطرفين الصهاينة، بتأمين وصول المصلين اليهود إلى ما يسمى «جبل الهيكل».
وتتجانس هذه المطالب، مع ما دأبت إليه سياسة الاحتلال، منذ حرب يونيو. فقد بدا واضحاً تصميم الحكومات الصهيونية المتعاقبة على تهويد القدس، والقضاء على عروبتها. وبدا ذلك جلياً في إعلان رئيس حكومة الكيان الصهيوني أثناء حرب حزيران 1967 ليفي أشكول، فقد وجه رسالة بعد الحرب مباشرة، إلى ما دعاه الشعب الإسرائيلي، كشف فيها عن النهج التوسعي لحكومته، مشيراً إلى أن حكومته ليست مستعدة للعودة إلى الأوضاع التي سادت قبل الحرب. وبدأت الحكومة الإسرائيلية، في تنفيذ سياساتها التوسعية. فأعلنت رسمياً ضمّ الجزء الشرقي من مدينة القدس، وأجزاء أخرى من الأراضي المحيطة بها، من الشمال والجنوب. وهي أراض محتلة من وجهة القانون الدولي.
كما أصدر الكنيست مرسوماً منح الحكومة سلطة تطبيق القوانين الإسرائيلية، بما فيها القوانين القضائية والإدارية على المدينة المقدسة. ومنذ ذلك التاريخ، شيد الصهاينة المستوطنات في القدس الشرقية، وبقية مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وليستمر التوسع والتمدد وقضم المزيد من الأراضي والاستيلاء على الممتلكات، على حساب السكان الأصليين حتى يومنا هذا، رغم أن هذه الأراضي بموجب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة هي أراضٍ محتلة، لا يجوز التصرف بها. فالضفة الغربية، والقدس الشرقية، بقيتا منذ النكبة عام 1948، تحت الإدارة الأردنية، ومنذ بداية الخمسينات جرى ضم الضفة الغربية والمدينة المقدسة إلى الأردن، وأصبحتا جزءاً لا يتجزأ منه، حتى حرب يونيو 1967 حين تم احتلالهما من قبل العدو الصهيوني، بعد هزيمة الجيوش العربية، وتزامن ذلك مع استيلاء الصهاينة على شبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية .
لا شك أن بقاء الأراضي العربية، تحت الاحتلال الإسرائيلي، هو الوجه الآخر للعجز العربي، عن التصدّي للمشكلات والأزمات التي تواجهها الأمة، من ضمنها عجزها عن لجم النزعات التوسعية، والتدخلات الخارجية في شئون الوطن العربي. ومادام العرب عاجزين عن الفعل، وفرض احترام المجتمع الدولي للقرارات التي تصدرها مؤسساته، بما فيها القرارات المتعلقة برفض الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، فإن الكيان الغاصب، سيواصل تمسكه بحيازة الأرض العربية، وستفشل كل المبادرات، لتسوية القضية الفلسطينية، لأن توازنات القوة العربية الراهنة، لا تتيح تحقيق أية تسوية عادلة لقضية فلسطين .
وفي هذا السياق، ليست مصادفةً أن تفشل المبادرة الأميركية، في تسوية القضية الفلسطينية، وأن يستمر التسويف والمماطلة، فيطالب وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بتمديد فترة المفاوضات، في محاولة يائسة للتوصل إلى حل يقبل به الصهاينة والسلطة الفلسطينية على السواء، من دون وجود ما يشي بأن الصهاينة على استعداد للقبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة، تتمتع بكامل حقوق السيادة. ولكن الذي لا يستوعب هو إصرار السلطة الفلسطينية، على التمسك بنهج أكّدت تجارب السنين الماضية عقمه، وأنه لا يعدو أكثر من سراب يحسبه الظمآن ماء .
لا يجد الصهاينة، في مواقف المجتمع الدولي، وفي ظل الوهن العربي، ما يجبرهم على التخلي عن نزعاتهم التوسعية، والقبول بقرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها قرارا 242 و338، بل على النقيض من ذلك تماماً، فالأوضاع العربية الراهنة، تدفع بهم إلى المزيد من الغطرسة والتمادي في عدوانهم. فالمطالب الأخيرة، بتجريد الأردن من الوصاية على المدينة المقدسة، تتزامن بتصعيد كبير في انتهاكات الصهاينة لحقوق الشعب الفلسطيني، والحديث مجدّداً، عن يهودية الكيان الغاصب والعودة لمشروع الوطن البديل الذي يهدف العدو من خلاله، لإنجاز نظريته في الاصطفاء، بإجراء تطهير عرقي واسع، وطرد البقية الباقية من الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال في الأراضي التي احتلها اليهود العام 1948، وشيّد عليها الصهاينة كيانهم الغاصب، من أراضيهم وتجريديهم من ممتلكاتهم، ودمج الضفة الغربية بالأردن، لتكون معبراً للتسلل الصهيوني الاقتصادي والسياسي لبقية أنحاء الوطن العربي.
والأنكى من ذلك كله، أن الغضب الشعبي والرسمي العربي تجاه نزعات التوسع، لم يرقَ لمتطلبات ردع العدوان. فمجلس النواب الأردني اكتفى بقرار غير ملزم طالب بطرد السفير الإسرائيلي احتجاجاً على هذه الخطوة، والدعوة لاجتماع عاجل لجامعة الدول العربية، لمناقشة الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وإلى هنا تنتهي الأمور عربياً، وتعود الأمور إلى سابقها.
لا حلّ للجم نزعات التوسع الصهيونية، سوى وقفة عربية تكون حدودها الدنيا، وقف التجاوزات الصهيونية، على الحقوق الثابتة والمعترف بها دولياً للشعب الفلسطيني الشقيق. وفي موقف كهذا لا يبتدع العرب جديداً، فقد رفضت الأمم المتحدة بموجب قرارات عدة مختلف الإجراءات التي اتخذها الصهاينة لدمج القدس الشرقية بكيانهم الغاصب. وكانت محاولات ضم القدس محل شجب دولي وليس لها أي أثر قانوني. وقد استند ذلك إلى قرارات سابقة، على رأسها قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر بعد النكسة، والذي نص على عدم جواز اكتساب الأراضي عن طريق الحرب .
لن يستقيم العدل في فلسطين إلا بتمكين شعبها من ممارسة حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وإجبار الصهاينة على التوقف عن العدوان، فذلك وحده الذي يتكفل بحماية عروبة القدس من مخطط التهويد. والمطلوب وقفة عربية تضامنية شعبية ورسمية، لإيقاف العبث الصهيوني، وحماية المقدسات الإسلامية، وعروبة القدس، قبل أن تتحوّل تلك الأراضي، بما فيها عروس العروبة، وقدس الأقداس، إلى قائمة المصروفات .
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4206 - الخميس 13 مارس 2014م الموافق 12 جمادى الأولى 1435هـ