كانت أمْنِيَة أحد الأصدقاء، أن يفتح مقهى يرتاده المثقفون وأصحاب الأفكار. كان خياله واسعاً باتساع فطرته السليمة، ونظرته الإيجابية للأشياء. وُلِدَت الفكرة عنده، ثم ماتت على وَقعِ اليأس مما يجري حولنا. فكما امتُحِنَت السياسة ورجالها وظَهَرَ ما ظَهَرَ منها ومنهم، فقد مُحِّصَت الثقافة وحاملوها وبانَ الكثير مما لا يسر. لم تكن النتائج مشجِّعة بالنسبة له، فصَرَفَ النظر بشكل حاسم، ولم يعد ينظر إلى إعادة إحيائها بكثير من الحماس.
والحقيقة أن الفكرة بالنسبة لي لازالت صالحة لإعادة الإنتاج ولو على مستوى التنظير، لذا فلا ضير لو طُرِحَت مرةً أخرى. باعتقادي، أن أشياء كثيرة غير عادلة لازالت تهيمن على فضائنا وتفكيرنا وعلى مجتمعاتنا بصورة عامة. ليس توزيع الثروة الذي يبدو في أكثر الأحيان غير عادل ومُوجِعاً، بل إن انعدام العدالة يسري على عدم قدرة آلاف من الناس على أن يُعبِّروا عن أفكارهم بطريقة غير تقليدية. هم ليسوا حزباً للكنبة كما يُعتقد، بل هم أصحاب رأيٍ سديد ووجيه.
ليس الجميع بقادرٍ على أن يُمسِكَ قلماً ليصيغ أفكاره، وليس الجميع يعتقد بجدوى الأحزاب السياسية، كي ينضم إليها ويطرح في أروقتها أفكاره، خصوصاً أن تجربتها الفاشلة جعلتها محل نفور من الناس. بل وليس الجميع بقادرٍ على أن يقف أمام مايكروفون ليَزعَقَ في جَمْعٍ من البشر كما في الخطب. كثيرون يستطيعون أن يتحدثوا بطريقة أخرى، وفي مواضع مختلفة، ومنها المنتديات والمقاهي الصغيرة، التي تأتلف فيها الجماعات ممن تمتلك رؤى جيدة، قد تكون بدايات جنينية لحلحلة الكثير من مشاكلنا.
البعض لازال يعتقد، أن المقاهي المتناثرة، هي عبارة عن مواخير للتدخين، ومحطة للأحاديث والقصص الشوارعيَّة، أو لمواعيد الغرام. هذه نظرة قاصرة جداً. وللأسف، فإنه كلما تكرَّست هذه النظرة، تكرَّست معها القيمة الأدنى للملتقيات الثقافية الوليدة في تلك المهاجع. في مقهى دي فلوري الباريسي المُشيَّد منذ 124 عاماً، كان بيكاسو وجون بول سارتر، وهيمنجواي وجياكوميتي وسيمون دي بوفوار... يطرحون أفكارهم هناك حتى وصلت إلى العالم وغيَّرت في طريقة تفكيره.
وقبل 328 عاماً بُنِيَ مقهى بروكوب الفرنسي. وفي هذا المكان أيضاً، أخذ جان جاك روسو وفولتير وبينجامين فرانكلين وديدرو، يطرحون أفكارهم الفلسفية العميقة. هذا الأمر انسحب على مقهى روما الشهير جريكو، الذي كان فولتير يزوره خِفية كما قيل، كي يستمع لتعليقات مرتاديه على رواياته. وكانت هذه الأماكن فرصةً لأن يزورها المثقفون والثوريون كما كان يحصل في مقهى سنترال بفيينا، بين هوغو فون هوفمنستال وبين ليو تروتسكي.
وقد شهِدتُ أنه وخلال السنوات القليلة الماضية، كان الكثير من خلاصات الكتابات المقروءة في الصحف والمجلات، قد نُحِتَت في لقاءات ثقافية كانت تُعقَد في المقاهي لساعات وساعات. شخصياً، أعرف نفراً من الأخوة، كانت لديهم تجارب ثقافية رائدة، انبلجت من خلال تلك المقاهي التي كانوا يرتادونها باستمرار، بعضها أفضى إلى إصدار كتب قيِّمة وعميقة، فضلاً عن نسْج علاقات بين ثقافات مختلفة، بعضها على طرفي نقيض.
وفي التاريخ العربي الأبعد إلى ما قبل الإسلام، كانت سوق عكاظ القريبة من مكة، مكاناً شبيهاً بالمقاهي في عصرنا (مع الاختلاف في الوصف) حيث كانت العرب «تجتمع فيها فيَعْكِظ بعضُهم بعضاً بالمُفاخَرة». وكانت قبائل العرب تتفاخر بها «ويَحْضُرها الشعراء فيتناشدون ما أَحدثوا من الشعر» كما جاء في «لسان العرب». وربما كان ذلك أيضاً في سوق مجنة وذي المجاز، ضمن المواسم المقرَّرة، التي كان يتعارف عليها العرب في ذلك الأوان.
بل إن تعريف كلمة «النادي» قد جاءت في المعاجم اللغوية العربية، من «نَدَوْتُ القومَ أَنْدوهم إذا جَمَعْتَهم في النَّادِي، وبه سُمِّيت دارُ النَّدْوة بمكة التي بَناها قُصَيٌّ (بن كلاب رئيس القرشيين)، سُمِّيت بذلك لاجتماعهم فيها، وكذلك النَّدْوةُ والنَّادِي والمُنْتَدَى والمُتَنَدَّى». وقد عُرِفَ العرب بنوادي اللقاءات التي يتجمعون فيها، سواء لطرح أشعارٍ فيها، أو لاتخاذ القرارات وإجراء المشاورات بشأن القضايا المهمة.
نعم، هناك منطوقٌ من الأفكار صار يذهب هباءً دون أن يُحفَظَ في الصدور، أو على أقل تقدير، أن تسمعه الآذان، ويمرُّ على الذائقة البشرية. السبب، هو أن الكثيرين لايزالون يعتقدون، بالصور التقليدية للثقافة كالكتابة وخطب الحشود أو في أدبيات الأحزاب السياسية دون غيرها. والصحيح، أن نتاجاً مهماً من الأفكار ظهر في تلك الأمكنة. هل يشك أحدٌ أن جزءًا من أفلام أوسكار ويرنر قد كُتِبَت أفكارها هناك، أو ألحان نيكولاس هارنونكورت كذلك؟ لا أعتقد.
من اللازم جداً، أن يُعاد تعريف الكثير من الأشياء عندنا وتعريف أدوارها، ومنها ثقافة المقاهي. لا أعني مطلقاً الأوقات التي يقضيها البعض في الهذيان والقيل والقال، أو في صبِّ الدخان في المنخرَيْن، بل إن ما أعنيه، هو إعادة تعريف للأمكنة الثقافية، واعتبارها صورة من صور الإنتاج العلمي، وتقدم المجتمع. نعم هناك التفات إلى هذا الأمر ولكنه لا يتمتع بالجدِّية ولا الدعم، وهو بعيد جداً عن بؤر الإعلام وكاميراته، والتي يتوجب عليها رصده واستنطاقه.
نعم، ربما يأتي يوم تكون فيه بعضٌ من أرقى الأفكار والحلول لمشاكلنا وتمتين علاقاتنا الإنسانية في حياتنا نابعة من مقاهي الثقافة والملتقيات فيها، كما كان النمساويون ينظرون إلى مقهى هافيلكا في فيينا، المشهور بفطيرته البوختلن، حيث كان المثقفون بمراتبهم يقصدونه للنقاشات، فضلاً عن المذعورين من مخلفات الحرب العالمية الثانية. نقول هذا الكلام في ظل عجز (أو شبه عجز) بتنا نشعر به في اجتراح حلول لمصائبنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4198 - الأربعاء 05 مارس 2014م الموافق 04 جمادى الأولى 1435هـ
مع الأسف
مع الاسف هناك شباب يتسكعون في المقاهي تاركين زوجاتهم وأبنائهم لساعات دون إحساس بالمسؤولية