أدت الأحداث التي لاحقت ثورات الربيع العربي والانتفاض ضد الدكتاتوريات إلى إعادة التفكير في قراءة بعض مسلمات الفكر السياسي، وخصوصاً مسألة العقد الاجتماعي وعلاقتها بالاقتصاد السياسي وتبرير واقع يمكن الانطلاق منه نحو الوصول إلى الحالة المثلى.
فالكيفية التي يتم فيها الوصول إلى الاتفاق على العقد الاجتماعي الذي بموجبه يكون لدى الحكومة التزامات تجاه مواطنيها، والمواطنون لديهم مسئوليات تجاه المجتمع (كما ينادي به جون لوك وروسو)، أصبحت مسألة غاية في الغموض في المجتمعات العربية، نتيجة عوامل كثيرة أبرزها غياب الوعي الجماهيري وديماغوجية الساسة وعجز الإسلام السياسي عن تقديم نموذج يلبي مطالب التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ونتيجة لتراكم إرث الإمبراطورية العثمانية والعقود المتتالية من الحكم الدكتاتوري واللااستقرار السياسي وحكم العسكر الانقلابيين، فإن التطور السيكولوجي لشعوب المنطقة وإحساسهم بأهمية العقد الاجتماعي الأصلي قد تلاشى. وبدلاً من ذلك كانت هناك عقود اجتماعية لا تراعي حقوق الإنسان، وإنما قائمة على تبادل المصلحة بين النخب السياسية والطبقة الثرية من المجتمع في مرحلة ما، والتخويف من المؤامرة الخارجية واللااستقرار السياسي في مقابل خدمات هامشية من الدولة. في حين تتم مصادرة الحريات الفردية كثمن في مرحلة لاحقة، وكانت النتيجة الفراغ في الفكر السياسي وانخفاض مشاركة الجماهير في القرار السياسي وتبعات ذلك على التطور الاجتماعي والاقتصادي.
ويشير المفكر الأميركي سيمور مارتن ليبست إلى أهمية التنمية الاقتصادية كشرط ضروري للوصول إلى الديمقراطية، بمعنى أن حالة العقد الاجتماعي تعتمد على التنمية الاقتصادية وتحسين مستلزمات الحياة للناس، لكي يصبحوا أطرافاً في هذا العقد. ففي ظل النمو الاقتصادي المرتفع يمكن للأفراد المشاركة في الحياة السياسية وتحفيزهم على ذلك عن طريق نظام الضرائب الذي هو ميكانيزم العقد الاجتماعي. ولكن من جهة أخرى كيف يمكن للفقراء دفع الضرائب في ظل التخلف الاقتصادي وانخفاض معدل الدخل الفردي؟ هنا تبدأ المعضلة أو الدائرة المفرغة التي تدور على نفسها بدون هدف واضح. وهذا هو حال البلدان العربية (وكثير من البلدان النامية الأخرى) غير الريعية، فلا تنمية بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون تنمية.
لاشك أن فرضية «ليبست» قابلة للجدل في ظل الشواهد التاريخية المختلفة، وعدم وجود خط زمني مستقيم للأحداث إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، في حين فشل النظام الأوتوقراطي في تأمين شروط التنمية وبالتالي الديمقراطية في الكثير من البلدان، فالحكام الدكتاتوريون هم سارقون للفائض الاقتصادي بدلاً من تعزيز النمو. وهذا ما يقودنا إلى بحث فرضية منصور اولسون حول كيفية نشوء الدولة، حيث يفترض أولسون أن قطاع الطرق المتجوّلون يقومون بتدمير الحافز على الاستثمار والإنتاج في ظل الفوضى، في حين يقوم قاطع الطريق الذي ينصب نفسه حاكماً لمنطقة ما والذي يحتكر السرقة لنفسه فقط، ويقوم بترشيد فرض الضرائب مؤدياً إلى وجود حالة الاستقرار وزيادة عوائده وعوائد المجتمع عن طريق حماية حقوق الملكية وزيادة الإنتاجية لضمان دفع الضرائب. وحسب أولسون فإن الشروط الضرورية لوجود الديمقراطية هي نفسها الضرورية لتأمين حقوق الملكية والتعاقد والذي يولد النمو الاقتصادي.
إن الوضع الحالي لعدة بلدان عربية الذي يسوده حالة من الفراغ السياسي والفوضى واختلاف محير للآراء وانقسام المجتمع إلى اتجاهات عديدة، مع ارتفاع مؤشر الفقر والبطالة، يدفع للتفكير حول تشابه هذا الوضع مع الحالة الافتراضية لأولسون. فهل يتم التوجه نحو حكم أوتوقراطي رشيد أم محاولة نشر الديمقراطية في مجتمعات لا تمتلك آليات دعم المؤسساتية، والنتيجة هي الفشل مع الأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية اللازمة للوصول إلى الأهداف المنتظرة. وهو بحد ذاته تحدٍّ يجب النظر فيه في كل السياقات، فأية مكاسب مقصودة في الأجل الطويل قد تتبخر في الأمد القصير نتيجة الحاجات الملحة لأعداد السكان المتزايدة باطراد.
إن النموذج المطلوب لحل معضلة البلدان العربية التي هبت فيها رياح التغيير، يجب أن تستند إلى مجموعة من أسس الاقتصاد السياسي، القائمة على مزيد من الحرية الاقتصادية ووضع المؤسسات التي تحمي ذلك، لبدء الطريق إلى الديمقراطية مع برامج اقتصادية أهمها المساعدات من الدول الغنية وتخفيف المديونية وسياسات التفضيل التجاري ومواجهة الفقر وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وخلق البيئة الاستثمارية المناسبة وتحديث الأنظمة المالية والبنكية، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز الإنتاجية ومكافحة الفساد، حيث كلاهما يمهدان الطريق الذهبي لبلوغ العقد الاجتماعي الذي سيؤسس للمرحلة التالية من التنمية الاقتصادية المستدامة التي تشمل ليس فقط القطاعات الاقتصادية وإنما التنمية الاجتماعية وبناء الإنسان.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4198 - الأربعاء 05 مارس 2014م الموافق 04 جمادى الأولى 1435هـ