العدد 4193 - الجمعة 28 فبراير 2014م الموافق 28 ربيع الثاني 1435هـ

الربيع يزهر في أوكرانيا

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

في ساحة الاستقلال بالعاصمة الأوكرانية (كييف) والتي أطلق عليها المعتصمون الأوكرانيون تعبير «الميدان» تيمناً بميدان التحرير، رابط عشرات الآلاف من الأوكرانيين في الساحة -التي أضحت رمزاً للثورة- المغطّاة بالجليد والثلوج وفي درجات حرارة دون الصفر، حتى نبتت الوردة من شقوق الجليد لتزهر «ربيع كييف»، ولينتصر الدم على السيف، والأيدي العارية على البندقية.

بدأت عملية الاحتجاج عفويةً بعد رفض الرئيس فيكتور يانوغوفيش زعيم حزب الأقاليم المتحالف مع الأخ الأكبر روسيا بوتين، لاتفاقية للتجارة مع الاتحاد الأوروبي، من شأنها أن تمهّد الطريق أمام أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد برّر يانوغوفيش رفضه للاتفاقية، بأنها تتطلب برنامجاً للتقشف سيؤدي إلى تسريح آلاف العمال، خصوصاً من مصانع القطاع العام غير الكفوءة والمدعومة من الدولة.

وقد يكون ذلك صحيحاً جزئياً، لكن السبب الحقيقي ظهر بعد ذلك بعد أن وقع يانوغوفيش اتفاقيات استراتيجية مع بوتين أثناء زيارته لموسكو، وبموجبها تزوّد روسيا أوكرانيا بالغاز الروسي بأسعار مخفضة، وقروض ميسرة بمبلغ 15 مليار يورو. وبالطبع لم يكن ذلك لسواد عيون يانوغوفيش أو بدوافع الأخوة الروسية الأوكرانية، بل لإبعاد أوكرانيا عن محيطها الطبيعي (أوروبا)، والحؤول دون انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.

الشعب الأوكراني منقسمٌ ثقافياً ما بين مزدوجي اللغة الروسية الأوكرانية في شرق البلاد المرتبطين بروسيا، وما بين الناطقين بالأوكرانية في غرب البلاد ذوي التوجه للاندماج مع أوروبا، وعضوية الاتحاد الأوروبي. وبالطبع ينعكس هذا الانقسام في كثير من الأمور ومنها الرؤية للتاريخ، فقد كانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفياتي، والعمود الثاني فيه بعد روسيا، وهو مصدر فخرٍ لشرقيي أوكرانيا، ومصدر نقمةٍ لغربييها الذين يرون فيه حقبةً استعمارية. وهذا يجر إلى الانقسام السياسي أيضاً، ما بين حزب الأقاليم والحزب الشيوعي الحليف ذي القاعدة في شرق البلاد، والأحزاب الديمقراطية والليبرالية ذات القاعدة في غرب البلاد مثل «حزب الوطن» بقيادة يوليا تيمشنكو.

بعد انفصالها أو استقلالها عن الاتحاد السوفياتي (بحسب الرؤية) في 1991، كيّف الحزب الشيوعي نفسه كما حدث في عددٍ من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وتبنى برنامجاً اشتراكياً اجتماعياً وغيّر اسمه، وتمكّن من حكم البلاد من خلال سيطرته على أجهزة الدولة والقطاع العام.

وفي ظل التحولات السياسية الجارية في البلاد، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، وبعد أن شهد ميدان الاستقلال ذاته ما عرف بـ «الثورة البرتقالية» التي أجبرت الحكم على إجراءات انتخابات حرة وفاز تحالف الأحزاب الديمقراطية والليبرالية بأن يوصل يوشينكو إلى الرئاسة، حيث تنافس مع الرئيس اللاحق والذي أزيح قبل أيام فيكتور يانوغوفيش. وكان خصماً عنيداً لروسيا ما عرضه للتسميم والتشوه.

وفي الوقت ذاته تولت يولي تيمشنكو الفاتنة زعيمة حزب الوطن رئاسة الوزراء، وفي الانتخابات الرئاسية التي أجريت في فبراير/ شباط 2010 استطاع يانوغوفيش التغلب على تيمشنكو بصعوبة وبفارق ضئيل. وفي الجولة الثانية من الانتخابات التي أعقبتها انتخابات نيابية، فاز فيها حزب الأقاليم بأغلبية بسيطة.

وبدل أن يعمل يانوغوفيش على ترسيخ قواعد الديمقراطية في بلدٍ يعاني من الانقسامات الثقافية والسياسية، عمل على الاستناد على أجهزة الدولة وأغلبيته البرلمانية لتعديل الدستور وتوسيع صلاحياته، والتضييق على الحريات العامة وتهميش الأحزاب المعارضة، بل والانتقام الفاضح من خصمه السياسي (تيمشنكو)، فلفّق لها تهمة الفساد في صفقة اتفاقية الغاز مع روسيا (تصوّروا روسيا راعيته وحليفته)، وزجّ بها في السجن رغم مرضها في حكم ظالم بسبع سنوات. هل يمكن أن نتصوّر ذلك في نظام ديمقراطي حقيقي؟ بالطبع لا.

بعد أن وقّع اتفاقية التحالف الاستراتيجي مع روسيا، اعتقد يانوغوفيش أنه انتصر، وأصر على رفض وليس إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة مع الاتحاد الأوروبي، وكان ذلك الشرارة التي فجّرت غضب الشعب الأوكراني الذي يعاني من مصاعب اقتصادية. وبدل الرجوع للعقل والحسابات الموضوعية، عمد يانوغوفيش مستغلاً الأغلبية البرلمانية، إلى تشريع قوانين قراقوشية لتكميم الأفواه والحدّ من حرية التعبير والتجمع والتظاهر، ومنها منع لبس الخوذ من قبل المعتصمين، كما عهد إلى توسيع صلاحياته على حساب البرلمان الذي يسيطر عليه حزبه.

على امتداد شهرين بين كرّ وفر، نجح المعتصمون في الثبات في ساحة الاستقلال، وتوسّعت الاحتجاجات لتطال مدناً عديدةً بما فيها شرق البلاد، منطقة نفوذ يانوغوفيش، وأخيراً تم إبرام اتفاق بين المعارضة ويانوغوفيش في تسوية شهد عليها الاتحاد الأوروبي، لكن الوقت قد فات، فالجماهير كانت مصممةً على اقتلاع نظامه وعزله.

وبدأ حزب الأقاليم وكتلته البرلمانية تتفكك، ما أحدث انقلاباً في البرلمان الذي اجتمع في جلسة تاريخية ليعزل يانوغوفيش، وينتخب الكسندر تورتشينوف نائب رئيسة حزب الوطن تيمشنكو، وأصدر البرلمان قراراً بإطلاق سراحها وسائر المعتقلين السياسيين، ليفرّ يانوغوفيش إلى مدينة خاركوف في معقله بالشرق الأوكراني مختفياً عن الأنظار.

وهكذا نفضت أوكرانيا عنها نظام الاستبداد المغلّف، لتدشّن مرحلة التحوّل الديمقراطي والإصلاحات، والتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته عرض الرئيس تورتشينوف على روسيا إعادة التفاوض معها، وإقامة علاقات حسن جوار، مع الاستقلال الفعلي عن الأخ الأكبر.

قد تكون حسنة يانوغوفيش هو أنه وبعد سقوط العشرات من القتلى، تراجع عن الخط الدموي، وتنازل عن كثيرٍ من مواقفه وأخطائه وإن كان متأخراً. كما يسجل للجيش الأوكراني تمسكه بواجبه الرئيسي، وهو حماية البلاد ورفض استخدامه من قبل السلطة الحاكمة، كما يُسجّل لقوى وزارة الداخلية وإن متأخرةً... امتناعها عن قمع المعتصمين والمحتجين.

وهكذا من رحم المعاناة يُولد الأمل، ويصل قطار الربيع إلى كييف بعد تعطل، وأجراس الربيع تدق في بانكوك وكاراكاس، ما سيزيد من رعب المستبدين العرب وحوارييهم الغارقين في هجاء الربيع العربي والذي هو شتاؤهم وصقيعهم.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4193 - الجمعة 28 فبراير 2014م الموافق 28 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 1:22 م

      اي ربيع هذا

      اي ربيع يا أستاذ هذا تدخل امريكي اوروبي للضغط على روسيا

    • زائر 7 | 12:31 م

      الاخ عبدالنبي العكري نحتاج منك مقال

      المقال عن ازدواجية المعياير عند الاوربين و الولايات المتحده مقارنه بين اوكرانيا والبحرين ولاتنسى السعودية .

    • زائر 6 | 5:55 ص

      أجراس الربيع

      الربيع العربي =لعبة الأمم في النسخة الجدبده.
      مع زائر4: عجبي لمفكر مثلك أن ينخدع هكذا وبكل بساطة

    • زائر 4 | 3:17 ص

      هل فعلا كاتب المقال هو عبدالنبي العكر؟

      عجبي من محنك سياسي متعمق وغائص في أت.ن السياسة يتوه ويتخبط في تحليلات غير متزنة ولا يذكر أو يتذكر بأن من حمل السلاح وقتل المحتجين هم مرازقة من الصهاينة من ذوي الأصول الأوكرانية. كذلك يتغاضى الكاتب عن تهديد امريكا والغرب لبوتن بأوكرانيا مقابل سوريا..عجبي لمفكر مثلك أن ينخدع هكذا وبكل بساطة

    • زائر 3 | 12:37 ص

      معالجة غير دقيقة

      يؤسفنا أن يعالج الكاتب المعروف بمواقفه الرزينة بمنهجيةبعيدا عن الدرايةبالحراك الحاصل في اوكرانيا:
      أولاان الحزب الشيوعي لم يغير أسمه فهناك حزبان يتبنيان نهج الايديولوجيةاليساريةوهو الحزب الشيوعي الملتزم بمبدا الماركسية اللينينية والحزب الاشتراكي الملتزم بنهج الاشتراكية الدولية
      ثانيان:لم يطلق المحتجين اسماجديدا على الميدان حيث انهم في"ميدان الاستقلال"الذي جرى تسميته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي
      ثالثا:معالجةمجريات الصراع السياسي ليس بالدقةالمطلوبةفهناك حقائق غائبةعلى الكاتب ندعوه لتبينها

    • زائر 1 | 10:18 م

      إسأل امريكا لماذا الدعم هناك والتلكؤ هنا؟

      امريكا وبريطانيا وقفتا موقفا داعما كل الدعم لحقوق الشعب الاوكراني
      امريكا وبريطانيا رأيتا ان حرق المرافق العامة واحتلال بعض الوزارات هو عمل سلمي بينما لم ترى في حراك الشعب البحريني ذلك
      بل اكثر من ذلك قتل في البحرين قرابة 160 شهيدا لم نسمع من أي سفير منهم
      ادانة أي عملية قتل للمواطنين بينما يسارعون لإدانة قتل أي شرطي؟!

اقرأ ايضاً