نصيحةً لوجه الله: إذا كان شباب ثورات وحراكات الربيع العربي التي في صعود وهبوط طبيعيين، يريدون إنجاح ما ضحّوا بالكثير من أجله، فإن عليهم دراسة تجارب ثورات الآخرين، إذ فيها الكثير من الدروس والعبر.
دعنا نستحضر مثالاً مهماً من دروس الثورة الفرنسية. إبّان الهرج والمرج السياسي والفكري الذي رافق تلك الثورة في سنواتها الأولى على الأخص، اخترع فيلسوف فرنسي اسمه دستوت دوتراسي، كلمة «الإيديولوجية» الشهيرة. ولقد عنت تلك الكلمة منذ البداية أن المنتمين لأية إيديولوجية معينة يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأن الآخرين يمتلكون الضلالة وكل ما هو غير حقيقي.
وظناً من هؤلاء الإيديولوجيين المؤمنين بالجمهورية الليبرالية بأنهم يحتاجون لقيادة قوية كاريزمية لتحقيق أهداف إيديولوجيتهم الليبرالية، تبنّوا ضابطاَ صاعداً وواعداً اسمه نابليون بونابرت.
لكن ما إن مرّ وقت قصير على استلام ذلك الضابط مقاليد الأمور حتى بدأ يشير إلى من ساندوه من الجمهوريين الليبراليين باستهزاء واحتقار بأنهم المنظّرون الذين ما إن يتعاملوا مع السياسة حتى يفسدوها. بقية قصص نابليون ومغامراته وما أوصلت فرنسا وأوروبا إليه من مآسٍ معروفةٌ ولا تحتاج إلى التذكير بها.
عبرة هذا الدرس لشباب الثورات والحراكات العربية أن لا يقعوا في مطبّ التفتيش العبثي عن هذه الشخصية المدنية أو العسكرية أو الدينية الواعدة، فيضعوا أهداف ومصير حراكاتهم في مهبّ الريح. المطلوب هو بناء المؤسسات الديمقراطية المدنية الفاعلة، المعتمدة على مساندة الجماهير الواعية، القادرة على الاستمرار في الأفق الزمني البعيد، المبتعدة عن الشخصنة وطقوس عبادتها والاكتواء بنيران تقلّباتها وهلوساتها. ولديهم أمثلة عربية كثيرة طيلة القرن الماضي والتي أظهرت أن أمام مثل كل نجاح واحد، وُجدت عشرات الأمثلة من الإخفاقات والكوارث. المطلوب هو مؤسسات ناجحة يديرها ديمقراطيون ناجحون بالتعاضد والتناوب، وليس قادة تنصهر الأمة ومؤسساتها في شخصياتهم التي كثيراً ما تكون نرجسية.
بل إن تاريخنا العربي الإسلامي يقدّم العبر، فأمام عدالة الخليفة عمر بن الخطاب وطهارة الإمام علي بن أبي طالب وعفّة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، هناك العشرات من شخصيات الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي، والدموي الخليفة العباسي السفّاح، والمجنون الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. الشخصنة في كلّ حقب التاريخ لم تنجب عبر العصور إلاّ مثل أولئك، وفي عصرنا الحديث قادت إلى أمثال هتلر وموسوليني وستالين والقذافي.
ويذكر التاريخ أن أحد أغنياء روما، عاصمة الأمبراطورية الرومانية، أطعم الفقراء الجياع إبّان فترة مجاعة، فما كان من الرومانيين إلاً أن أعدموه. وبرّروا ذلك بأن ذلك الغني كان يجمع ويهيّئ أتباعاً ليساعدوه في أن يصبح طاغيةً مستبداً. لقد فضّل الرومانيون حريّتهم على رفاهيتهم.
اليوم في بلاد العرب، في وهج وآلام الحراكات الثورية، هناك من ينبرون كمخلّصين ومشفقين، لإقناع الشباب والجماهير بإعطاء أفضليةٍ لفتات الاقتصاد، لاستثمارات آنية غير مؤكدة من هذه الجهة الغنيّة أو تلك، على الكرامة والحرية والعدالة. لقد حسمت روما خيارها لصالح الحرية، فهل يستطيع شباب الثورات والحراكات حسم خيارهم وينتقلوا إلى مستوى ووجهة أكثر وضوحاً وكفاءة، وأقرب لسيرورة ديمقراطية إنسانية صاعدة بعيداً عن كرنفالات تسويق هذه الشخصية أو تلك؟
لقد كتب الكثير عن النظام الأبوي القائم على سلطة الإخضاع والتبعية والولاء وغياب الاستقلال في تركيبة العائلة العربية وفي العلاقات المجتمعية العربية. واعتبر بعض علماء الاجتماع أن هذا النظام غير الديمقراطي هو أحد إشكاليات تخلّف المجتمع العربي. ومن يريد معرفة الأصول التاريخية والاجتماعية لظاهرة الأبوية المريضة سيجدها في كتب المرحوم هشام شرابي على سبيل المثال.
لكن ما يهمنا هو التوجه إلى شباب ثورات وحراكات الربيع العربي لنذكّرهم بالآتي: إذا كنتم قد استطعتم بنجاح كسر حاجز الخوف التاريخي من سلطة الاستبداد ودخلتم في مواجهة نفسية وذهنية وجسمية معها، فإنكم أيضاً قادرون على كسر حاجز الانبهار الطفولي غير الناضج بالأب الحكيم القادر وحده على القيادة في عالمي السياسة والحكم. لا تَدَعُوا عادة انبهار الطفل العربي بوالده الكبير أو بأخيه الكبير، وبالتالي مسح ذاته، أن تنتقل إلى ساحة السياسة، هذا إن كنتم تريدونها ساحة تغييرات تاريخية كبرى يقع عاتقها على الجميع.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4185 - الخميس 20 فبراير 2014م الموافق 20 ربيع الثاني 1435هـ
شكرا
شكرا استاذ على هذا المقال الرائع، فعلا نحن نحتاج بأن نلقي الضوء على ركائز تأسيس المجتمعات المتقدمه والتي تكفل حرية الانسان وتحافظ على كرامته بعيدا عن تقديس الاشخاص وتمجيدهم
لا بد من قيادة
القيادة لا تعني الشخصنة
و لا بد من اختيار واعي للقيادة حتى لا نقع في الشخصنة.
سيدي ايها العريق
اعجز عن الثناء ...غذاء عقلي كامل...
من حلف شمال أطلسي ألى حلفاء أمريكا في المنطقه
ليس بسر لكن يقال ظهر دين جديد إسلام إشتراكي ودين شيوعي بينما إسلام الإخوان في البلاد الناطقه بالعربيه إلحاد وليس فيه من الدين شئ إلا إنتشار البدع؟! فقد غير الدين المحمدي وإستبذل بآخر ... بعد أن تطور من التكفير الى الإرهاب بقيادة المخابرات المركزيه ... قالت قريش عادة الى حليمه بعاداتها القديمه المتوارثه أبا عن جدا وتقاليد باليه وثقافه مهترئه. فهل هي ثوره على التجاره الكافره الحره العالميه؟ أو على التجار في الدول الخاسره؟
كلام 100%
كلام الدكتور يعكس فعلاً أخطاء الثورات العربية... فنحن حتى قبل الانتصار نبدأ بتجهيز بديل للمفسدين.. ونبدا نمجدهم لدرجة يصعب علينا انتقادهم.. فنبني دون قصد الها جديدا!!
لعبة الكراسي
يجري التسويق لقيادات غير معروفه وهي تحتكر السلطة في الجمعيات السياسية منذ سنوات طويله فكيف بها ان وصلت إلى سلطة كراسي حقيقية تدير الاموال وتدير الناس..إذا كان كرسي الجمعية مغرٍ بهذه الدرجة فما بالك بكرسي سلطة حقيقي..مقال مهم جدا.
شكراً لك
أستاذي الفاضل مقالك أسقط الضوء على أساس مشاكل الأمه فمتى سنتعافى من داء التبعيه
دكتورنا
كلام جميل ...