كان القنص – ولايزال - إلى اليوم هواية المُتْرفين الذين يقتنصون هم أيضاً من أوقاتهم كي يرفّهوا عن أنفسهم؛ على رغم أن بعضهم يمارس الهواية طول العام وإن في صور شتّى! هواية المُتْرفين بالأمس هروباً من الدِعة إلى طلب الطيور أو الطرائد، وذلك يتطلّب جهداً وحركة ولياقة وتحمّلاً وأناة. المتعة هي المُبْتغى والمُحصّلة النهائية تلك هي قيمتها.
وكان العرب في جاهليتهم، يعلون من شأن القنص أيما إعلاء، وكان موضوع مديح لهم أن يأكل الرجل من صيد يده.
القنص اليوم كُلَفُه مضاعفة. وما يتم اقتناصه لا يعادل معشار كلفة وتجهيز وأدوات القنص نفسه. في النهاية أيضاً تسقط حسابات الكُلَف وتظل المتعة خارج تلك الحسابات. وفي القنص طريدة ومُطارد. كل يعمل على إنهاك الآخر.
ثمة أكثر من قنص اليوم. الشعراء، الصحافيون، المصورون، وقائمة تقل أو تكثر متاخمتها لذلك المعنى والقيمة.
***
المصورون أكثرهم في التجلّي والمعنى. حَمَلة الكاميرات بوعي وضمير ورؤيا هم أكثر أولئك قدرة على وضع العالم على الحواف أو في قلب الأمكنة! عادة ما يأخذون الأطراف التي تعنيهم الصورة أو سبباً في بروزها إلى الأطراف المسنّنة!
الصورة قنص/ حجّة لا تفيد معها كل أساليب الإنشاء التي بين يدي الناس اليوم. كيف تكذِّب الصورة؟ المصوِّر صقرٌ في صورة أو أخرى. الحدقة التي وراء العدسة لا تبصر فحسب، إنها تقرأ، تكتب، تقدِّم ما لا يراد رؤيته. ما لا يراد أن يظهر على السطح. ما لا يراد له أن يكشف ويعرّي.
يقنص المصوّر الحالة... المشهد... الأثر... الحركة... التجاوز... الليل والنهار أيضاً. يقنص الأحلام... يقنص كل ذلك لا بمعنى الفتْك بها. لا بمعنى الدخول في المتعة فحسب. المتعة حاضرة. متعة أن تكون شاهداً، ومتعة أن تكون جزءاً مما حدث ويحدث، ومتعة أن تكون على قدر المسئولية ودفع الضريبة أيضاً. هل في دفع الضريبة متعة؟ سؤال مستفز... أليس كذلك؟
في الأوقات المنحرفة، وفي الأمكنة التي انحرفت بالناس عن قيمتهم ومعناهم، يأتي المصوّر وهو يعلم مسبقاً أنه إزاء آلة فتك ستوقفه، ستحاسبه، ستزجّ به في غيابات متعتها (السجن) والإيذاء بكل صوره وزواياه أيضاً هذه المرة ولكن بعيداً من الكاميرا. بمنأى عن العدسة!
***
لا يترك المصوّر الصحافي خصوصاً، مجالاً – في البيئات المضطربة والملتهبة والتي ينهار فيها سقف الحريات على رؤوس المطالبين بها – للاستدراك. الصورة تفضح «الثرثرة» و»الإنشاء» و»التبريرات» الباردة والصفراء، وبعبارة أدق: «الكاذبة». ما الذي يمكن قوله أو نفيه مقابل ما أمسكت به الصورة؟
الصورة تضع دولاً وممارسات في الزاوية، محشورة «مبهوتة»، مضطربة وإن أصرَّت على ممارسة إدمانها في: النفي واحتكار صدقها والحقيقة!
الصورة لا تمزح هنا. لا تعرف مهادنةً ولا تهيّئ أرضية للتفاهم على ما تم القبض عليه؛ إلا إذا اعتبرنا استهداف (قنص) الصحافي هو الحل الأمثل والخيار النموذجي كي يتم التعتيم على الصورة. لكن كيف يمكن ذلك التعتيم بجيوش من المصورين الصحافيين. يحتاج كل ذلك إلى جيش من القنّاصة المرئيين وغير المرئيين، ومع ذلك لا مجال هنا لتحييد الصورة ولا إدخال المصور الصحافي في خانة التواطؤ؛ خصوصاً إذا تحدثنا عن مصور صحافي يجد متعته في فضح عمق وليس سطح الممارسة عبر الصورة.
***
مصوِّر صحافي واحد بضمير منتبه وحاضر وعلى استعداد لتوقع وتقبُّل الكُلف. بعين نافذة. بحس يقود تلك العين. ممسك بحساسية اللحظة وموضوع الصورة. بحس شاعر وحس مقاتل في الوقت نفسه. مقاتل للدفاع عن الحقيقة، يتجاوز كتيبة مدجَّجة بكل أسلحة الاستهداف والقتل والخراب.
الكل مستهدف في الكوارث والنوازل. المصور الصحافي على رأس القائمة. تابعوهم في البؤر الساخنة تلك. عدد الذين يستهدفون إما بالتصفية المباشرة أو الاعتقال أو «طبخ» التهم لهم في ازدياد، وعياً بخطورة وحيوية أدوارهم والدور الذي ينتجه أقل جزء من الثانية «بكبسة زر» تجعل بعض تلك البؤر في أبدية الخزي والقلق وإفلاس الحجج!
***
ثمة من يقنص لتستقيم الحياة. لتعود إلى رشْدها ولحماية البشر من السطو على أرواحهم وقناعاتهم وخياراتهم وحقهم في الوجود، وثمة قنص هو السطو على كل ذلك وأولئك. قنص لا يُبقي ولا يذر، ومع ذلك تخرج الآلة الإعلامية الخاصة بذلك القنص تتباكى في جِلْد حمل وروح ما هو أكثر شراسة من الوحوش. أعني الوحوش هنا في ولوغها في الدم وامتهان التمثيل بطرائدها!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4170 - الأربعاء 05 فبراير 2014م الموافق 05 ربيع الثاني 1435هـ
تحية للقناص ...
تحية للمصورين و الإعلاميين و الحرية لهم سوى أن كانو داخل أو خارج المعتقل ..
و تحية للكاتب القناص جعفر الجمري على هذا المقال الذي قنص و فضح إستهداف السلطة للمصورين .. #البحرين
#Bahrain