يتساءل البعض، ما العلاقة بين أزمة «العيدية» التي دخلت كتلة «المنبر الإسلامي» فيها صراعا مع نواب البرلمان، وبين االمسألة الدستورية» التي قدمت «المنبر» فيها مرئياتها إلى الصحافة قبل تقديمها إلى أصحاب الشأن من ممثلي الجمعيات، ما أثار حفيظة الكثير منهم، واعتبروها أشبه بفرض الشروط عن كونها مرئيات فعلية. ويمكن لأي متتبع للحدثين «العيدية» و«المسألة الدستورية» أن يحصل على مجموعة استنتاجات تتعلق بالأداء السياسي لجمعية «المنبر الإسلامي» فيما يتعلق بمحيطها الخارجي، وبكتلة «المنبر الإسلامي» داخل قبة البرلمان، وأدائها من خلاله، وإثارة هذا الموضوع تحديدا لا يأتي من أجل إسقاط نقد حاد بغية الإسقاط أو التسقيط، وإنما بهدف التبصير بالكثير من القضايا التي قد تَفُوتُ المشتغلين في السياسية، أو أنهم يفوِّتونها عمدا أو سهوا.
أولا إشكالية «العيدية»: قد لا يتم الخوض هنا في المسألة تقديم المقترح برغبة من الناحية الدستورية التي نص عليها دستور 2002، استوفت الشروط أم لا؟ ولكن يمكن تشخيص مسألتين أساسيتين، قد تكونان لب المشكلة التي أفرزت إشكالية «العيدية».
الأولى: إصرار نواب كتلة «المنبر الإسلامي» على إمضاء العيدية، إلى درجة أن رئيس كتلة المنبر النائب صلاح علي قال «إن لم تقر العيدية، فعلى النواب أن يجلسوا في البيت» ولا يدري المرء ما العلاقة بين عدم إقرار العيدية وبين جلوس النائب في بيته؟ هل تمثل العيدية مشروعا استثنائيا بحيث أن عدم إقراره يشكل نكسة إلى مجلس النواب؟ أم أن هناك إيحاء أكبر لم يقله النائب؟
في الحقيقة، فإن النواب يشعرون بضغط الملفات عليهم، وعدم قدرتهم على حلها، وأنهم يرغبون في إنجاز ولو شيء يبرر وجودهم داخل المجلس، ويحفظ الكثير من هيبتهم أمام ناخبيهم، ولهذا أطلق «علي» هذه العبارة ليس بدلالاتها الظاهرية التي تبدو غير مفهومة، وإنما بدلالاتها الإيحائية التي تعكس واقع العجز عن إنجاز شيء يذكر، ما يضاعف من العبء النفسي على النواب، ويجعلهم في موقع حرج بين خيارهم في المشاركة في الانتخابات، وبين ضعف حيلتهم أمام أدوات الحكومة الدستورية، وتَمَكُّنِها في إدارة اللعبة البرلمانية والتنفيذية معا.
إلى ذلك، فإن تقديم «المنبر» لمقترحه برغبة وبصفة مستعجلة، ثم الإصرار عليه بصورة توحي بأنه قريب الإنجاز، فيه دلالة أعمق من كونه قُدِّمَ بصفة دستورية أو غير دستورية، وبمراعاة القانون والعجز في الموازنة أو عدم المراعاة، فما يعكسه هذا التقديم على طريقة مقترح برغبة وبصفة مستعجلة، يعطي تصورا أن اتكاء «المنبر الإسلامي» على الحكومة بصفتها حليفا يمكن أن يساعدها على الإنجاز وإثبات الوجود أمام الآخرين، كما أمن أنظمة المصالح الأخرى، من دون مرعيات سياسية، وهذا ما جعل الكثير من جمهور المتلهفين للعيدية يتصورون أن الفرج قريب.
إلا أن المفاجأة جاءت عكس هذه الحسابات كلها، لأن مرعيات الدولة السياسية، واقتصادها العاجز، وبعض المفاهيم السياسية التي تعتمدها الدولة في تفسير الوضع الاقتصادي وتحريكه، أكبر من رغبة «المنبر» المحمومة وحساباتها وتعويلها على الحكومة، ولو أقرت «العيدية» على سبيل الفرض، لكان الفخر للحكومة قبل «المنبر»، لأنها أساس «الإنجاز»، والاتكاء لا يغِّير شيئا من عقم الأدوات الدستورية من جهة، وإمساك الحكومة بمفاتيحها كلها من جهة أخرى.
الثاني: رد كتلة «المنبر» على رفض النواب إلى العيدية، إذ جاء في بيان مستنكر للرفض، والبيان هو الآخر حوى ثلاث دلالات سياسية خطيرة، قد لا تبرز الآن، ولكنها ستعقد الأجواء تماما على مستوى علاقات النواب ببعضهم، وحراك المجلس النيابي في دائرة مشروعاته ومقترحاته، وكتله التي يعوّلُ عليها كثيرا في تطوير أدائه، إلا أن المرصود في الأفق غير ذلك.
الدلالة الأولى: جاء في البيان أن «كتلة المنبر» فضلت أن يقدم مقترح «العيدية» إلى المجلس بصفة مستعجلة بدلا من عرضه على لجان المجلس، لأنه سيعطل داخل اللجان ويأخذ وقتا كثيرا، وسيفقد قيمته الفعلية بصفته مستعجلا، ما سيجعل من صرف «العيدية» مستحيلا في عيد الفطر المقبل. وأكد البيان تقديمه للمقترح بقانون الموازي للمقترح برغبة، والقاضي بصرف العيدية أيضا، معللا ذلك بأن المقترح بقانون لتأمين استمرار صرف العيدية في السنوات المقبلة بشكل قانوني.
ما يفهم من هذا البيان في ظل انعكاس الصورة، وعدم تحقيق «المنبر» لرغبتها في «العيدية»، أن المقترح بقانون مستقبلا أكثر تعذرا على التحقيق، لأنه كان مسندا من «رغبة المنبر» المستعجلة والمحمومة في صرف «العيدية»، بحيث لم يتم تحقيقها، فإن التأكيد على استمرارها من خلال المقترح بقانون ورد بقوة، وهذا تحايل مقبول على الأدوات الدستورية المعقدة، ولكنها لم تفلح في ما أرادته. إلا أن الخطير في الأمر، هو إشارة المنبر إلى تَعَطُّلْ المشروعات داخل اللجان وأثناء المناقشات، ما يعزز نقطة إضافية إلى التعقيد في الأدوات الدستورية، وهو تعقيد العمل البرلماني من خلال النواب أنفسهم، وهو أمر مفهوم لمن يتتبع معادلات القوى داخل البرلمان بدقة.
الثانية: لقد كانت ردة فعل «المنبر» عنيفة جدا، وربما متوعدة في المستقبل، من خلال ما أوحاه البيان في عدة دلالات، منها إشارته إلى عدم اقتناعه بسبب رفض النواب للمقترح، وفق الحجة التي ساقها النواب بأن المقترح لم يتضمن القطاع الخاص ولا العاطلين عن العمل ولا المتقاعدين، معتبرا أن ما ذكره النواب من حجج ليست من صلب المشروع، وإنما يمكن تضمينها لاحقا في المقترح بقانون الذي ستتقدم به. إلا أن الأخطر في بيان «المنبر» أنه عاد وطلب العذر من النواب بأنه لن يوافق على كل المقترحات التي تقدموا بها، سواء ضمن مشروعات مستقلة، أو ضمن مقترحه بـ «العيدية» مراعاة لوضع القطاع الخاص وغيره من المؤسسات، ما يجعل «المنبر» أمام سؤال ملح عن جدوى طرح «العيدية»، مادام سيتضرر منها قطاع كبير من المؤسسات الحكومية والأهلية.
كما يعطي انطباعا على حجم ردة الفعل والتسرع الكبير في أخذ الموقف والإصرار عليه، ثم الانكسار عنه بصورة تراجعية مُحَمَّلة بالكثير من الخطوات المضادة مستقبلا، وهو عمل لا يمكن قبوله في الحراك السياسي الذي تتجاذبه الكثير من الأطراف، وليس طرفا واحدا، ويدل على حداثة التجربة وعدم تلمسها لمواطن الصراع الفعلي، لأنها للتو بدأت تشتغل في السياسة.
الدلالة الثالثة: تنقض ردة فعل «المنبر» في بيانه المذكور، ما يتم الحديث عنه في الأوساط البرلمانية من عقد تحالفات سياسية، واختراق التيارات لبعضها بعضا في دائرة المصالح الآنية المتراكبة، خصوصا إذا ما علمنا مثلا أن «الكتلة الإسلامية» بزعامة الشيخ عبدالله العالي وقفت في وجه «عيدية» المنبر، من أجل أن تمضي مشروع «الحد الأدنى للأجور»، وهي نفسها من تم تسليط الضوء عليها إبان انتخابات لجان المجلس النيابي، بأنها تحالفت مع «المنبر» سريا لهزيمة الأصالة على رئاسة اللجان، ما يعطي مؤشرا بهشاشة هذه التحالفات، وبتزاحم المشروعات وتضاربها في الوقت نفسه، جراء التحالفات الهشة التي تتغير وتتبدل نتيجة المصالح الآنية المؤقتة، وهذا سيضاعف من إحكام قبضة الأدوات الدستورية والسلطة التنفيذية معها على المجلس النيابي، وما بيان «المنبر» إلا البداية.
هذا سرد تحليلي لحادث بسيط يسمى «العيدية»، اختلطت فيه الأوراق، وأصبح الشغل الشاغل للناس، وهو جزء من الإخفاق وليس الإخفاق كله، وهو جزء من الفهم لنقص الأدوات الدستورية، ولم تكن بمستوى تفعيل كل الأدوات لاختبار التجربة بصورة أشمل، فكيف بإشكالية ضاربة أطنابها في هذه الأرض، وتمثل شغلا فعليا للقطاع الأوسع والأكبر من المعارضة، بين إحساس بالعجز نتيجة الأداء السيئ وعدم وحدة الخطاب، وإحساس برفض الواقع، وأدوات ضغط سياسية، تنقصها الكثير من العزيمة والبصيرة وتلمس الأهداف، كل هذا الزخم السياسي، كيف تفاعلت «المنبر» معه، وكيف كان إحساسها بثقله في ظل واقع برلماني ينوء به أعضاؤه جراء ضغط الملفات غير المحتمل.
ثانيا المسألة الدستورية: إذا كان بالإمكان إسقاط هذا الملف المعقد على مستوى تفاعل «المنبر» معه، قبال تفاعلها بشكل متواز مع «العيدية»، وما آلت إليه نتائج «العيدية» وما آلت إليه نتائج «المسألة الدستورية» بالتوازي معها تماما، فيمكن توجيه مجموعة أسئلة.
الأول: كيف تقبل «المنبر» أن تغامر بمصير «المسألة الدستورية»، وبخيارات سياسية بنيت عليها، لتزج بها في مجموعة «مرئيات» مطاطة لا يمكن لها أن تحل أو تربط، وتُدخِلُ في معالجة هذا الملف من كان له دَخلٌ به ومن لم يكن. فإذا كانت «عيديتها» وقفت عند حدود خلاف بسيط بين أعضاء المجلس، فلم تمر، فضلا عن قدرتها على تجاوز الأدوات الدستورية الأخرى، فهل من المُؤَّمَلِ أن تمرَّ الحلولُ المقترحة للإشكالية الدستورية عبر المجلس النيابي؟ الواضح أن تجاذبات هذه المسألة أوسع من المجلس النيابي، الذي لا يُؤمنُ بعض أعضائه بوجود هذه المشكلة من الأساس، وربما كانت «العيدية» نموذجا مصغرا يحفز «المنبر» على التأمل أكثر في المسألة الدستورية.
الثاني: من الواضح جدا، أن رغبة «المنبر» كانت أكيدة ومحمومة لإنجاز شيء في موضوع «العيدية»، إلى درجة أن رئيسها صلاح علي قبل الجلوس في البيت إذا لم تتحقق العيدية، والسؤال: هل هذا السلوك المحموم سيكون بالدرجة نفسها من الحميمة والإصرار فيما لو تم رفض مقترحات «المؤتمر الدستوري» بخصوص المسألة الدستورية؟ يبدو أن العموميات التي أطلقتها «المنبر» في مرئياتها لـ «المؤتمر الدستوري» لا توحي بالحميمة نفسها، إذ ان «العيدية» إنجاز شخصي لا يتعدى «المنبر»، ولو عن طريق السلطة التنفيذية، وهو إحساس بالاستقواء أمام الخيارات الأخرى التي تفرض نفسها في الساحة السياسية، في حين أن الإنجاز على مستوى المسألة الدستورية هو فرض للتوازن غير المطلوب ولا المرغوب بين قوى المجتمع، ويمكن التعويض عنه، ولو في دائرة الإيحاء بالإنجاز في ظل واقع برلماني ينوء بالكثير من عوامل الفشل.
الثالث: هل ستبقى «المنبر» معوِّلة على التصاقها بالسلطة، أم ستدرك أنها جزء من عملية سياسية قد تخسر فيها وقد تربح بحسب معطيات النجاح والفشل، وأنها الآن ليست ذاك الخطاب الدعوي المؤَّمنِ عليه ماديا ومعنويا في الوصول إلى قلب جماهيره، وإنما جزء من حراك سياسي وواقع انتخابي، قد يفرض خروجها من اللعبة السياسية إذا ما لم تنجز شيئا على مستوى ما وعدت به؟ وبالتالي، فإن حاجتها إلى مراجعة خياراتها السياسية ليست حاجة مقرونة بالسلطة، وإنما حاجة مقرونة بالإنجاز من عدمه، لأن اللعب الانتخابية هكذا دورها، وليس هذا تجن على أحد.
الرابع: ألا توجد حاجة لدى «المنبر» إلى مراجعة خطابها السياسي وعلاقاتها السياسية تجاه القوى السياسية والجمعيات السياسية التي خذلتها مرتين، الأولى: في «ميثاق التنسيق» والثانية في المؤتمر الدستوري؟ عليها بمراجعة خطابها في ضوء وجودها كفاعل سياسي غير مُؤَّمَنٍ عليه، وإنما وجود يستمد شرعية بقائه من جدوى بقائه فعلا، إنها دعوة إلى الوقوف طويلا أمام خيارات الذات وخيارات الآخر، والتحقق من كل الخيارات بمعيار صمودها أمام تحدي الإنجاز، لا أمام ما هو مُؤَّمَنٌ عليه حاليا.
إذا كان لابد من نصيحة إلى النواب، فيمكن القول لهم: إن الخيار الوحيد أمام المجلس النيابي هو خيار محاسبة السلطة التنفيذية واستخدام أدوات الاستجواب على الكثير من ملفات الفساد والتمييز التي استشرت عند كثيرين من المتنفذين صغارا وكبارا، شرط أن يخوضوا هذه المعركة مجتمعين لا متفرقين، فهو السبيل الأنجع لخلق التوازن مع السلطة التنفيذية، لكونها تمتلك الأدوات الدستورية الكثيرة. وليتركوا ملف المسألة الدستورية إلى الحراك الخارجي الذي تقوده الجمعيات السياسية، لأنها الأقدر على المناورة عليه، وتحريكه بحرية أكبر مع القيادة السياسية، فطبيعة توازنات المجلسين إضافة إلى التوزانات الحالية في المجلس، لا تخدم تحريك الملف بما يوصل إلى نتيجة مطلقا.
كما توجد نصيحة إلى الجمعيات السياسية، بأن ينطلقوا لهذا الملف بعيدا عن خلفيات المشاركة والمقاطعة، وعن التكتيكات الخاصة، وإنما ينظروا إليه بصفته حدثا ذاتيا استثنائيا خارجا عن التكتيك، بما يساعد على إيجاد حلول بمستوى الحدث تتجاوز المعطيات الخاة إلى أصل المشكلة، وليأخذوا من «العيدية» العبرة
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 417 - الإثنين 27 أكتوبر 2003م الموافق 01 رمضان 1424هـ