بالنسبة إلى انتاج المعرفة في البلدان العربية... على رغم الزيادة في عدد البحوث العربية فإن النشاط البحثي العربي مازال بعيدا عن عالم الابتكار. ويتسم انتاج الكتب في البلدان العربية بغزارة في المجال الديني وشح نسبي في الادب والفن والعلوم الاجتماعية. إن اشكال الرقابة المختلفة التي يخضع لها المبدع العربي تعد من أهم التحديات التي يواجهها لأنها تتعارض مع سمة اساسية للابداع الفني، وهي كسر المحظورات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية وتعرية المسلمات التي تسود مجتمعا ما. كما يجد الفنان العربي نفسه في مواجهة تيارات فكرية واجتماعية تنظر إليه بعين الحذر، وأنظمة سياسية لا تقبل تعرية الواقع بمشكلاته خوفا على هيمنتها.
وبالنسبة إلى قياس المعرفة في البلدان العربية فهو ليس بالأمر السهل فالمعرفة تكوينات مجردة أو رمزية في الأدمغة يكاد يستحيل الامساك بها ولو فكرا، ناهيك عن وضع قياسات محددة لها. لذلك تبدأ محاولة القياس بدراسة مؤشرات للجوانب الاساسية لاكتساب المعرفة في البلدان العربية مقارنة ببلدان ومناطق أخرى في العالم. إن بيانات التعليم الأكثر توافرا وصدقية تتصل عادة بالجانب الكمي المتمثل في مدى الالتحاق بالتعليم بينما تقل البيانات عن جانب النوعية وتتدنى صدقيتها.
يتناول الجزء الثالث من التقرير موضوع السياق المجتمعي المؤثر في اكتساب المعرفة. وهو يفسر تردي حال المعرفة في البلدان العربية حاليا عبر تحليل أثر ثلاثة نطاقات من السياق المجتمعي لمنظومة اكتساب المعرفة والثقافة الشعبية، والبنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة، والسياسة قطريا واقليميا وعالميا. إن عناصر التراث الفكري واللغة والدين والقيم تظل هي الأكثر حسما وتحديدا وتوجيها للثقافة العربية العالمية، وهي التي ينبغي أخذها قبل غيرها في الحسبان في سياق مشروع انتاج المعرفة في البلدان العربية. وفي النصوص الدينية الاسلامية نتبين حالا من التوازن المنشود بين الدين وبين الدنيا، أو بين عالم الحياة الدنيوية وبين الآخرة. فالاسلام - كما يقال - «دين ودنيا» بمعنى أنه يصعب فصل «السياسي» عن باقي المعاملات بين البشر، تشريحيا، في تعاليم الدين الاسلامي. إن تحالف بعض أنظمة الحكم القهرية مع فئة من علماء الدين الاسلامي المحافظين قد أفضى إلى تأويلات للاسلام، خادمة للحكم ولكن مناوئة للتنمية الانسانية وخصوصا فيما يتصل بحرية الفكر والاجتهاد ومساءلة الناس للحكم ومشاركة النساء في الحياة العامة. إن ثلاثة شروط أساسية على الأقل ينبغي توافرها لكي يحتل الدين مكانته المرموقة في النموذج المعرفي العربي الأصيل. الأول يتمثل في العودة الى الرؤية الانسانية الحضارية والأخلاقية لمقاصد الدين الصحيحة. الثاني، تحرير الدين من التوصيف المغرض واستعادة المؤسسات الدينية استقلالها عن السلطات السياسية وعن الحكومات والدول وعن الحركات الدينية - السياسية الراديكالية. الثالث، الاقرار بالحرية الفكرية وتفعيل فقه الاجتهاد وصون حق الاختلاف.
واللغة هي المنظار الذي من خلاله يدرك الانسان عالمه، وهي العامل الحاسم الذي يشكل هوية هذا الانسان ويضفي على المجتمع طابعه الخاص. واللغة العربية تتقدم كل المظاهر والتجليات التي تجسد الثقافة العربية ومبدعاتها الانسانية. كما أنها في التجربة التاريخية العربية تقترن بأمرين أساسيين يتعلقان تعلقا جوهريا بالوجود العربي والمستقبل العربي. الأمر الأول يتمثل في «الهوية» والأمر الثاني يرتبط بـ «المقدس». فاللغة العربية هي أبرز العلامات الفارقة والمميزة للهوية العربية.
واللغة العربية هي اللغة التي نزل بها «الوحي» بالقرآن الكريم فكانت مبدأ لنشاط عقلي وروحي وأدبي ومادي تشخَّص في حضارة انسانية شاملة هي الحضارة العربية الاسلامية. وتواجه اللغة العربية اليوم، على أبواب مجتمع المعرفة والمستقبل، تحديات قاسية وأزمة حقيقية: تنظيرا وتعليما ونحوا ومعجما واستخداما وتوثيقا وابداعا ونقدا. إن مشكلات الفصحى تبدأ منذ سنوات التعليم في المدرسة إذ يتم تعلمها كمضمون أو معرفة هي موضوع لذاتها، وذلك كله حصيلة المدرسة التقليدية التي تقوم على مبدأ القراءة والترديد والرواية والحفظ وتجنب الابتداع والاختلاف، وتفضي الى معرفة جامدة غير قابلة للحياة والتطور.
ينتقل التقرير الى تأثير البنية الاجتماعية والاقتصادية، فيذكر أن السمات الرئيسية لنمط الانتاج السائد في البلدان العربية ذات الأثر على اكتساب المعرفة تتمثل في الخصائص الخمس الآتية: الاعتماد على استنضاب المواد الخام، تركز الانتاج في الانشطة الأولية، غلبة المشروعات الصغيرة والصغرى، ندرة الشركات المتوسطة والكبرى، ثم ضعف المنافسة. أما بالنسبة إلى البنية الطبقية فإن الشريحة المتوسطة في البلدان العربية تتضاءل حجما بسبب تطورات الفقر وتوزيع الدخل والثروة، وتفقد تدريجيا مقومات تذوق المعرفة، وخصوصا باللغة العربية السليمة نتيجة ثقافة الامتاع السطحية في وسائل الاعلام والانتاج الفني الرائج. وقد نجم عن التوزيع غير العادل للثروة في البلدان العربية الذي توازى مع توزيع السلطة استشراء المنفعة وتقديم الخير الخاص على الخير العام وفساد اجتماعي واخلاقي وغياب النزاهة والمسئولية. وقد ازدادت هجرة العقول فبين عامي 1998 و2000 غادر أكثر من 15000 طبيب عربي إلى الخارج. إن السبب الرئيسي لهجرة الكفاءات هو غياب البيئة المجتمعية والامكانات التي يمكن أن تؤدي إلى قيام الكفاءات بدورها المنشود في منظومة المعرفة وفي نهضة بلادها.
ويفرد التقرير فصلا كاملا للسياق السياسي فيذكر أن السلطة السياسية تلعب دورا جوهريا في توجيه المجال المعرفي وتقدمه أو تخلفه، وتعمل على تدعيم النمط المعرفي الذي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها. وتنبثق النخبة المثقفة على امتداد الوطن العربي من أوساط السلطة السياسية المحالفة والمعارضة، متبنية نمطا أو أنماطا معرفية قد تكون مطابقة مع هذا التوجه السياسي أو ذاك. وقد تكون - وهذا هو الغالب - منتحية نحوا اكاديميا يعمل على الاشتغال على انتاج المعرفة وتنميتها، بصرف النظر عن توظيفها في المجال السياسي. وتقدم هذه النخبة نفسها باعتبارها حامية للمعرفة وضامنة لنموها، وخصوصا أن معظمها يتموقع في الجامعات العربية أو في مراكز البحوث العلمية المنبثقة عنها أو الموازية لها. إن تفريط فئة واسعة من النخبة العربية المثقفة في استقلالية المجال المعرفي قد أدى الى هيمنة الانظمة السياسية عليها، ما مكنها من استقطاب وتوجيه عدد من المثقفين نحو المفاهيم التي تخدم توجهاتها وأدى ذلك إلى بروز نزعات تبريرية في أوساط بعضهم تعمل على تعزيز الشرعية للسلطة السياسية القائمة. ويلاحظ المراقبون للساحة الفكرية العربية أن المثقفين العرب الذين تمكنوا من ذلك لم يتمكنوا بفضل علمهم أو استقلالهم الفكري، بل بسبب مهاراتهم في التغلغل والانخراط في السلطة السياسية.
وعلى رغم ذلك يهمش هؤلاء عندما تحتاج السلطة السياسية الى مشورة بشأن الخيارات السياسية التي تقوِّم الدراية والعلم إذ يفضل الحاكم في هذه الحالات، ولاسباب تاريخية واقتصادية وسياسية، أهل العلم من خارج البلاد على المفكرين المحليين.
يركز الجزء الرابع والأخير على صوغ رؤية استراتيجية لاقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية مساهمة في حفز النخب العربية على المشاركة الفعالة في ابداع رؤية عربية صميم لبناء نهضة انسانية في الوطن العربي. ومن هنا يركز الفصل الأخير من التقرير على توجهات العمل المستقبلي. ويذكر أن اقامة مجتمع المعرفة في عموم الوطن العربي هي سبيل العرب للوجود الكريم من موقع قدرة ومنعة في عالم الالفية الثالثة. ويقوم بناء المعرفة على الاركان الخمسة.
1- اطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم، وضمانها بالحكم الصالح: تعد حريات الرأي والتعبير والتنظيم هي الحريات المفتاح الضامنة لجميع صنوف الحرية. وهي الضامنة لحيوية البحث العلمي والتطوير التقاني والتعبير الفني والادبي. ويمثل الحكم الصالح ضمانة لعقلانية اتخاذ القرار، ما يؤدي بدوره الى تعزيز الطلب على المعرفة في جميع قطاعات المجتمع ويدفع بعملية انتاج المعرفة قدما.
2- النشر الكامل للتعليم راقي النوعية مع ايلاء عناية خاصة الى طرفي المتصل التعليمي، وللتعلم المستمر مدى الحياة: لابد من القضاء المبرم على جميع اشكال الحرمان من التعليم الاساسي. كما لا يستقيم الحديث عن اقامة مجتمع المعرفة في الوطن العربي والأمية الهجائية ما برحت تحكم على ملايين كثيرة من العرب، وخصوصا بين النساء بالبقاء في العصر الحجري المعرفي.
3- توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني في جميع النشاطات المجتمعية: ليس العلم أو المعرفة سلعا تستورد، وانما ثقافة وبنى مؤسسية وأنشطة لابد أن تغرس في واقع مجتمعي بشري محدد. فالمطلوب هو نسق عربي للابتكار يتمركز قطريا متخللا النسيج المجتمعي بالكامل، تكمله امتدادات عربية ودولية قوية.
4- التحول الحثيث نحو نمط انتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية: يحتاج العرب الى تطوير وجود أقوى في الاقتصاد الجديد إذ القيمة المضافة أعلى واسرع نموا.
5- تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل، منفتح ومستنير: يقتضي تأسيس هذا النموذج اصلاحات جوهرية في السياق المجتمعي لمنظومة المعرفة في البلدان العربية نجملها في التوجهات الستة الآتية:
- العودة الى صحيح الدين وتخليصه من التوظيف المغرض وحفز الاجتهاد وتكريمه.
- النهوض باللغة العربية.
- استحضار اضاءات التراث المعرفي العربي في تشكيل النموذج المعرفي العربي.
- اثراء التنوع الثقافي في داخل الأمة ودعمه والاحتفاء به.
- حفز التعريب والترجمة الى اللغات الأخرى.
- تعظيم الاستفادة من المنظمات الاقليمية والدولية واصلاح النظام العالمي.
وينتهي التقرير بالتشديد على اعادة العمل العربي المشترك بحيث يقوم على مشاركة شعبية فاعلة طال اسقاطها، ويضمن فاعلية عملية ما فتئت مفتقدة، ويعيد الحيوية الى الوحدة العربية التي كاد العرب بها يكفرون
العدد 416 - الأحد 26 أكتوبر 2003م الموافق 29 شعبان 1424هـ