المقاربة بين الثورة الفلسطينية التي أطلقتها فتح، وبين منظمة التحرير، توضح أن الأولى هي فعل ذاتي فلسطيني مستقل عن الأنظمة العربية، وأنها الرد الطبيعي على رفض الفلسطينيين في الشتات البقاء في المنافي، وتصميمهم على الكفاح من أجل العودة إلى ديارهم. أما منظمة التحرير فقد منحت شهادة الولادة من قبل القمة العربية العام 1964، والأهم أن القرار بإطلاق الثورة المسلحة، من دون تهيئة مستلزمات ذلك من قبل فتح، كان لخشيتها من أن تخطف منظمة التحرير الفلسطينية التي أطلقها القادة العرب دورها النضالي.
في مطلع هذا الشهر احتفل الفلسطينيون ومعهم أحرار العالم بمرور تسعة وأربعين عاماً على انطلاق الثورة الفلسطينية، التي أشعلت فتيلها حركة فتح بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات. بعد عام من هذا التاريخ سيكون قد مضى على انطلاق الثورة نصف قرن من الزمن، دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها، التي عبّر عنها البيان الأول لحركة فتح، التي نشأت في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. فلماذا لم تتمكن الثورة، بعد مضي هذا الوقت الطويل من تحقيق أهدافها؟
ابتداءً يجدر التمييز بين انطلاقة الثورة الفلسطينية، وبين تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. فالثورة الفلسطينية، هي امتداد للنضال الفلسطيني المسلح، الذي بدأت طلائعه في ثورة عز الدين القسام العام 1936. وقد توقف هذا الكفاح بعد فشل تلك الثورة. وفي الخمسينات، بدأت محاولات لاستعادة روح الكفاح المسلح، مثلته كتائب أبطال العودة، التي أريد لها أن تكون الذراع العسكرية لحركة القوميين العرب، لكنها لم تعمر طويلاً .
منظمة التحرير الفلسطينية أسست بقرار عربي رسمي في القمة العربية الأولى، التي عقدت بدعوة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، للردّ على قيام الكيان الصهيوني بتحويل مياه نهر الأردن من الجليل إلى صحراء النقب. وقد صدر عن هذا المؤتمر ثلاثة قرارات رئيسية، الأول تشكيل قيادة عسكرية عربية موحدة، للردّ على التحديات الإسرائيلية، ومنعها بالقوة من تنفيذ مشروعها في سرقة مياه النهر. والثاني تحويل مياه النهر في الجزء الشمالي لري مشاريع أردنية جديدة، يتكفل القادة العرب بإنجازها. والثالث تشكيل هيئة تمثل الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وتقود نضاله نحو تحرير أرضه.
المقاربة بين الثورة الفلسطينية التي أطلقتها فتح، وبين منظمة التحرير، توضح أن الأولى هي فعل ذاتي فلسطيني مستقل عن الأنظمة العربية، وأنها الرد الطبيعي على رفض الفلسطينيين في الشتات البقاء في المنافي، وتصميمهم على الكفاح من أجل العودة إلى ديارهم. أما منظمة التحرير فقد منحت شهادة الولادة من قبل القمة العربية العام 1964، والأهم أن القرار بإطلاق الثورة المسلحة، من دون تهيئة مستلزمات ذلك من قبل فتح، كان لخشيتها من أن تخطف منظمة التحرير الفلسطينية التي أطلقها القادة العرب دورها النضالي. بمعنى آخر، أن انطلاقة فتح العسكرية كانت تحدياً وردة فعل على قرار تأسيس منظمة التحرير.
ولذلك اتسمت علاقة الثورة الفلسطينية بدول المواجهة والأنظمة العربية الأخرى بالتوتر منذ الأيام الأولى لانطلاقتها. وكان ذلك أحد أسباب الفشل الذي منيت به الثورة عبر تاريخها الطويل.
لقد شدّد البيان الأول لحركة فتح على أن الثورة المسلحة هي طريق العودة والتحرير، «من أجل أن نثبت للمستعمرين وللصهيونية العالمية أن الشعب الفلسطيني يبقى حياً في مواقعه، وأنه لم يمت ولن يموت». والبيان هنا يطرح قضيتين أساسيتين، الأولى تتعلق بالهدف وهو تحرير فلسطين التاريخية، والثاني الوسيلة وهي الكفاح المسلح.
ولم يتحقق الافتراق في الأهداف والوسائل، من الكفاح المسلح، إلى العمل السياسي، ومن التحرير الكامل لفلسطين، إلى دولة في الأراضي التي احتلتها «إسرائيل»، في عدوانها عام 1967، إلا بعد تولي المقاومة الفلسطينية بزعامة عرفات قيادة منظمة التحرير. سيطرة قيادة المقاومة على منظمة التحرير، التي بدت وكأنها أضافت ثقلاً للمقاومة، حملت في جنباتها بعداً آخر. فحركات المقاومة تسلمت منظمة هي من صنع النظام العربي الرسمي، ومظلتها جامعة الدول العربية. بمعنى أن على المنظمة أن تخضع منذ ذلك التاريخ فصاعداً لموقف دول المواجهة من الصراع مع الصهاينة.
لقد تسلمت المقاومة المنظمة، لكن بشروط الأنظمة العربية الرسمية، بما حتم حدوث التغيير في الأهداف والاستراتيجيات الفلسطينية. ولأن شهادة ميلاد المنظمة هي من صنع دول المواجهة، فإن انتقال المقاومة لها، بشروط صناعها، يعني أن المقاومة ذاتها تحوّلت إلى امتداد للنظام العربي الرسمي، وأنها سوف تغير استراتيجياتها وأهدافها، وفقاً للموقف العربي السائد تجاه الصراع العربي- الصهيوني .
وقد ساعد على تأكيد هذا الجزء من جدلية الصراع ضد الكيان الغاصب، أن منظمات المقاومة، ظلت تنطلق بعملياتها العسكرية، بشكل رئيسي من الأقطار العربية المحاذية لفلسطين، والتي يناضل معظمها لاستعادة أراض تابعة لها، استولى عليها الكيان الغاصب في حرب حزيران 1967، وذلك يعني أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ستغيّر أهدافها عندما تغيّر الدول المحاذية لفلسطين، التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين وعناصر المقاومة الفلسطينية، والمقرات الرئيسية لمنظمة التحرير، سياساتها واستراتيجياتها من الصراع مع الصهاينة.
ولا جدال، في أن المقاومة الفلسطينية، بعد إجبارها على الخروج من الأردن عام1970 ، ومن لبنان عام 1982، لم يبق لديها قواعد عسكرية آمنة، في بلدان المواجهة، ما عطّل من إمكانية قيامها بعمليات عسكرية مؤثرة ضد الكيان الصهيوني، من الأراضي العربية المجاورة. ولذلك فإن المقاومة التي انخرطت بالجملة في منظمة التحرير الفلسطينية، بالقدر الذي تفشل فيه في تأمين قواعد عسكرية آمنة لعملياتها، بالقدر الذي تغير فيه استراتيجياتها، بما يتماهى مع استراتيجيات الدول العربية، التي قبلت بقراري 242 و338 الصادرين عن مجلس الأمن الدولي، للتوصل إلى تسويات سلمية للصراع.
يضاف إلى ذلك، أن المقاومة الفلسطينية عجزت عن تحشيد الشعب الفلسطيني بالأراضي المحتلة، نحو هدف التحرير الكامل لفلسطين. ولم يقف الفلسطينيون بالضفة والقطاع مكتوفي الأيدي، بل قاموا بانتفاضات واحتجاجات، تطورت لاحقاً في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، إلى انتفاضة أطفال الحجارة. وقد أجبرت هذه التطورات قيادة عرفات على تغيير استراتيجياتها جملة وتفصيلاً. ولم يعد اللاجئون الفلسطينيون في المنافي، الذين مثلوا العمود الفقري للمقاومة، مركز اهتمام الرئيس عرفات.
لقد انتقل مركز الجاذبية في الكفاح الفلسطيني من الشتات، إلى الضفة الغربية والقطاع. وبذلك تحققت مغادرة نهائية في فكرة قيادة منظمة التحرير إلى التسوية السياسية. وكانت تلك هي المقدمة للدخول في مفاوضات مدريد، ثم مفاوضات أوسلو فقيام السلطة الفلسطينية، منقوصة السيادة بالضفة والقطاع.
وكانت التحولات في مجملها حصيلة خلل في توازن القوى، بين مختلف أطراف الصراع، لصالح الكيان الصهيوني، ولسوف تبقى الأوضاع على ما هي عليه، إلى أن يحدث تغيير في موازين القوى لصالح المشروع القومي، وذلك رهن بالوعي والقدرة والإرادة. والموضوع بحاجة إلى المزيد من التفصيل والتحليل.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4151 - الجمعة 17 يناير 2014م الموافق 16 ربيع الاول 1435هـ