العدد 415 - السبت 25 أكتوبر 2003م الموافق 28 شعبان 1424هـ

نحو إقامة مجتمع المعرفة(1-2)

تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003:

منيرة أحمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

منذ بداية إطلاقه في عمّان في الأسبوع الماضي، يلقى تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003: نحو إقامة مجتمع المعرفة، اهتماما ملحوظا بين مختلف الأوساط من عربية وأجنبية. فالتقرير الحالي، كسابقه الذي احدث ضجة كبيرة في العام الماضي، يركز كثيرا على العيوب قبل الانجازات. ومصدر قوة هذا التقرير انه كتب بأقلام عربية ومن وجهة نظر عربية ووضعه فريق لا يشك في نزاهته أو علمه أو صدقيته. وكان التقرير الأول الذي صدر في السنة الماضية قد ركز على تغلغل نواقص ثلاثة في بناء التنمية العربية هي: الحرية وتمكين النساء والقدرات الانسانية وخصوصا المعرفة، «فالمعرفة هي معيار الرقي الإنساني في الطور الحالي من تقدم البشرية». يؤكد التقرير ان المعرفة حال إنسانية ارقى من مجرد الحصول على المعلومات فهي مورد إنساني لا ينقص، بل ينمو، باستعماله. والنشاط الانساني الاساسي في القدرة على نشر وتوليد المعارف على مستوى الفرد أو المنظومة المجتمعية هو التعلم، ولذلك فإن التعلم الفردي والجمعي هما من أهم قنوات بناء رأس المال المعرفي في المجتمعات البشرية. ويمكن القول ان المعرفة هي سبيل بلوغ الغايات الانسانية الاخلاقية الأعلى: الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

وفي البلدان النامية تشتد الحاجة إلى منظومة فعالة لاكتساب المعرفة بحيث تصبح مثل هذه المنظومة مناط الأمل في تجاوز التخلف، من خلال المعرفة سبيلا للنماء والتحرر وخصوصا في عالم كثافة المعرفة والعولمة. والمجتمع الذي لا يكافئ، بشكل واضح، اكتساب المعرفة وتوظيفها، من خلال التعليم والتعلم والبحث والتطوير الثقافي وجميع صنوف التعبير الأدبي والفني، إنما يحكم على نفسه بتردي المعرفة.

وهناك اربعة جوانب اخرى مهمة للسياق الاجتماعي لمنظومة اكتساب المعرفة في البلدان العربية: العلاقة مع النشاط المجتمعي وخصوصا في ميدان الانتاج، ودور الدولة، والبعد القومي، والبيئة العالمية. فقيام علاقة وثيقة بين منظومة اكتساب المعرفة والنشاط المجتمعي في اي مجتمع، من خلال قطاع الأعمال (العام والخاص) والحكومة ومنظمات المجتمع المدني، شرط جوهري لحيوية المنظومة ولتعظيم دورها في ترقية الانتاجية في المجتمع. والجانب الثاني للسياق المجتمعي لاكتساب المعرفة هو الأهمية الحاسمة للدولة بجميع مؤسساتها (وليس مجرد الحكومة) في دعم منظومة اكتساب المعرفة وخصوصا في المجتمعات الآخذة في النمو. وتكتسي هذه النقطة (اي الدور الحاسم للدولة) أهمية خاصة في حال البلدان النامية التي تمر بتحول اقتصادي ينطوي على تقليل في الدور المجتمعي للدولة. على حين تتفق النظرة الأحدث لتفسير النمو الاقتصادي، ناهيك عن التنمية، على دور حاسم للدولة لا يتوقف عند مجرد التغلب على «فشل السوق» وإنما يتعداه إلى الفعل المبادر والنشط في مضمار حفز اكتساب المعرفة. والمقصود بمجتمع المعرفة على وجه التحديد أنه ذلك المجتمع الذي يقوم اساسا على نشر المعرفة وانتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة، وصولا لترقية الحال الانسانية باطراد، اي اقامة التنمية الانسانية. وفي عبارة واحدة، يعني مجتمع المعرفة اعتماد المعرفة مبدأ ناظما لجماع الحياة البشرية. ويذكر التقرير ان البلدان العربية تبقى جد بعيدة عن مجتمع المعرفة بمعنى ان فجوة المعرفة بين الكثير من البلدان النامية ومنها العربية، ومجتعات المعرفة ضخمة وتتنامي بصورة متسارعة.

العرب والمعرفة

تحت هذا العنوان يشرح التقرير تاريخ العرب الطويل مع اكتساب المعرفة. فمنذ بداية الحضارة الاسلامية نجد مع بداية الدولة العباسية في القرن الثامن الميلادي نهضة علمية لا تقل اهمية عن تلك التي سنشهدها ابان القرن السابع عشر في أوربا. ولفهم هذه النهضة العلمية لابد من التذكير بعوامل عدة منها: السلطة السياسية والاجتماعية وتهيئتها بالوسائل المادية والباحثين، وهذا ما يستفاد مما يروى عن خلفاء العباسيين وعن انشاء بيوت الحكمة والمراصد. اما العامل الثاني فقد انبثق من حاجات المجتمع الجديد من مادية وثقافية. فقد اقتضت الدولة الجديدة الشاسعة الانحاء المتعددة الحضارات والانظمة تعميرا وتوحيدا، ما الزم الاستعانة بالعلم.

فانباط المياه الجوفية وشق القنوات وإنشاء المدن ومد الطرق وتنظيم الدواوين وجباية الخراج ومسح الاراضي وغير ذلك ادى إلى توحيد النظم الحسابية والاستعانة بالجبر وفروع الهندسة. كما ادت الفرائض الدينية، من صوم وصلاة وحج إلى ابحاث فلكية كان لها ابلغ الاثر في رقي علم الهيئة. اما العامل الثالث الذي اسهم في النهضة العلمية فهو نهضة اخرى سبقتها في العلوم الانسانية والاجتماعية، اي علم الكلام وعلوم اللغة والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها. فقد اثارت هذه العلوم الاجتماعية والانسانية الكثير من المسائل التي تطلب حلها الأخذ بالعلوم الاخرى من رياضية وغيرها وتطويرها أو ابتكار علوم جديدة، وإذا تأملنا حركة الترجمة العلمية، من فلكية ورياضية وغيرهما والتي كانت اكبر حركة ترجمة علمية عرفها التاريخ، فسيظهر لنا ان هذه الترجمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبحث العلمي والإبداع. اما النموذج المعرفي الراهن في الوطن العربي فتتجاذبه تيارات شتى. ذلك ان الفكر العربي الحديث والمعاصر يتضمن اتجاهات ومناهج عدة ترتبط كل منها بعوامل ودوافع سياسة واجتماعية وايديولوجية فهناك اتجاهات اسلامية متشددة واسلامية إصلاحية وتقدمية تنموية وماركسية وليبرالية وتقانية ووضعية وغيرها. لذلك نجد في الفكر المكتوب باللغة العربية تمايزا وتناحرا في بعض الاحيان بين الاتجاهات المختلفة ولو انها تتناول جملة مشتركة من الموضوعات: التقدم والتأخر، والاصالة والمعاصرة، الأنا والآخر، العرب (المسلمون) والغرب، وهي كتابات متواترة منذ قرن من الزمان وكأن العقلية العربية مازالت تدور حول نفسها منذ بدايات عصر النهضة من دون ان تتجاوز ذاتها نحو مجالات اكبر إنتاجا وجدوى من وجهة النظر المعرفية، وكأنها دائمة الاكتفاء بالعناوين العامة والعريضة ذات الفحوى الشعاري والاستنهاضي - أو البكائي النادب للذات وللحظ العاثر معا، وملقيا اللوم على الغير - من دون اكتفاء النظر في كفاية هذه العناوين لفهم واقع المجتمعات العربية العصى على الاختزال. وجدير بنا في هذا المقام تذاكر المساهمات المعرفية القيمة والهادفة للإصلاح المجتمعي لأجيال النهضة العربية الحديثة بتياراتها الثلاثة في مصر والشام والمغرب: الإصلاح الديني عند الافغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم. كما تجدر الاشارة إلى قيام معوقات مجتمعية تؤدي إلى الاحجام عن انتاج المعرفة في البلدان العربية منها الصراع الثقافي الدائر بين تيارات سياسية على ساحة أسلمة المعرفة مثلا، ومنها الاستبداد السائد في الدول العربية وضعف الامكانات المخصصة لنشر وانتاج المعرفة ومنها ايضا قلة استعداد المفكرين للخوض في امور جوهرية تتعلق بالتاريخ وبالواقع معا وترددهم حيال اخضاع مجتمعنا وماضينا لنظر متأن مدقق. النموذج المعرفي العربي أو ما يسمى «العقل العربي»، إذا برنامج اكثر مما هو واقع. هو نموذج في طور التكشيل. القسم الثاني من التقرير يبحث كيفية إقامة مجتمع المعرفة ويشرح بداية حال المعرفة في البلدان العربية. والمعني بنشر المعرفة عملية تتجاوز مجرد نقل المعلومات والبيانات، بمعنى كيف تتحول المعلومات إلى مخزون معرفي قادر على تفعيل عملية انتاج المعرفة وتكوين رأس مال معرفي يسهم في التنمية الانسانية. ويتم نشر المعرفة من خلال التنشئة ومراحل التعليم المختلفة وايضا عبر وسائل الاعلام والترجمة من اللغات الاخرى. ويقصد بالتنشئة الاجتماعية العلمية التي يكتسب الأفراد بمقتضاها المعرفة والمهارات والاتجاهات والقيم والدوافع التي تؤثر في تكيف الفرد مع بيئته الطبيعية والاجتماعية والثقافية. هناك ثلاثة انواع من التنشئة هي: الاسلوب المتسلط والمتساهل والحازم. وتبين الابحاث ان اكثر اساليب التنشئة انتشارا في الاسرة العربية هي اساليب التسلط والتذبذب والحماية الزائدة ما يؤثر بصورة سلبية على نمو الاستقلال والثقة بالنفس والكفاءة الاجتماعية، اما الوضع العام للتعليم فمازال متواضعا مقارنة بدول اخرى حتى في بلدان العالم النامي. وكم التحدي الأهم في مجال التعليم في مشكلة تردي نوعية التعليم المتاح، بحيث يفقد التعليم هدفه التنموي والانساني من اجل تحسين نوعية الحياة وتنمية قدرات الانسان الخلاقة. إن تردي المرتبات للعلمين يضطرهم إلى القيام بأعمال اخرى تجعلهم غير قادرين على إعطاء تلاميذهم الرعاية الكافية. كما تكرس المناهج الدراسية العربية الخضوع والطاعة والتبعية، ولا تشجع التفكير النقدي الحر. ويتجنب محتوى المناهج تحفيز التلاميذ على نقد المسلمات الاجتماعية أو السياسية ويقتل فيهم النزعة الاستقلالية والابداع. ويقتضي النهوض بالتعليم تأسيس آليات لامتلاك العلم ونشره وذلك من خلال تقوية اللغة القومية وتطويرها بحيث تصبح قادرة على استيعاب العلوم الحديثة وتوطينها، مع الحرص على تعلم اللغات الاجنبية في الوقت نفسه. اما بالنسبة إلى التعليم العالي فتتأثر نوعيته بعدم وضوح الرؤية وغياب سياسات واضحة تحكم العملية التعليمية. ومن السمات المميزة لعدد من الجامعات في الوطن العربي قلة استقلالها ووقوعها تحت السيطرة المباشرة للنظم الحاكمة. وعلى رغم ذلك تحول الكثير من الجامعات إلى ساحة للصراعات السياسية والعقائدية بسبب تقييد العمل السياسي بوجه عام. ومن آثار حال التبعية للنظم الحاكمة ان اصبحت بعض الجامعات تدار وفقا لمقتضيات المنطق السياسي الحاكم وليس وفقا لخطة او سياسة تعليمية حكيمة. فمثلا تعاني بعض الجامعات العربية من تكدس مخيف بسبب التزايد غير المحسوب لأعداد الطلاب الملتحقين في الجامعات وسيلة لإرضاء المجتمع واستجلاب الترضية الاجتماعية.

اما بالنسبة إلى الإعلام فيذكر التقرير أنه مازال يعاني الكثير بشكل عام، ما يجعله دون مستوى تحدي بناء مجتمع المعرفة. إذ تؤكد الاحصاءات الدولية ان المواطن في الدول العربية لا يتواصل بالقدر الكافي مع وسائل الاعلام فانخفاض عدد الصحف لكل 1000 شخص إلى اقل من 53 في الدول العربية مقارنة مع 285 صحيفة لكل 1000 شخص في الدول المتقدمة يعكس بكل تأكيد حالتين، كلتاهما سلبي. الأولى هي ان المواطن العربي لم يخلق بعد طلبا كبيرا على الصحف بسبب انخفاض معدلات القراءة وارتفاع كلفة الصحف مقارنة بالدخل. والثانية هي أن تراجع مستوى الصحافة العربية واستقلاليتها ومهنيتها جعلها غير مرغوبة عند فئات واسعة من القراء العرب. ومازال توافر اجهزة الراديو والتلفزيون في مجمل البلدان العربية اقل من متوسط الدول متوسطة الدخل ومتوسط العالم ككل. ويواجه الإعلاميون العرب صعوبات جمة في الوصول إلى المعلومات إذ تتذرع السلطات غالبا بأمور غامضة مثل الاسرار الرسمية ومعلومات تمس الأمن القومي. ولكن لابد من ذكر ان بعض الفضائيات العربية قد نجحت في ادخال مضمون جديد على الشاشات العربية من خلال ديمقراطية الحوار. كما يتعرض الصحافيون العرب للحبس وتغليظ العقوبات في قضايا الرأي والنشر والايقاف عن ممارسة المهنة. ومن المفيد رصد بعض الايجابيات في الاعلام العربي فقد شهد العامان الأخيران حركة ملموسة في الحياة الاعلامية العربية تشكل تغيرا مهما عما كان عليه الواقع الاعلامي في العقود الماضية، وعلى رغم استمرار هيمنة الاعلام الرسمي ذي الرأي الواحد على الساحة الاعلامية، فقد دخلت الصحافة العربية مرحلة جديدة تتميز بعنصر المنافسة لصحف ووسائل اعلام تمتعت لحقب طويلة باحتكار القارئ العربي. واستطاعت قنوات عربية خاصة أن تنافس اعتى المؤسسات التلفزيونية العلمية في السبق على الخبر والصورة.

بالنسبة إلى انتاج المعرفة في البلدان العربية... على رغم الزيادة في عدد البحوث العربية فإن النشاط البحثي العربي مازال بعيدا عن عالم الابتكار. ويتسم انتاج الكتب في البلدان العربية بغزارة في المجال الديني وشح نسبي في الادب والفن والعلوم الاجتماعية. إن اشكال الرقابة المختلفة التي يخضع لها المبدع العربي تعد من أهم التحديات التي يواجهها لأنها تتعارض مع سمة اساسية للابداع الفني، وهي كسر المحظورات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية وتعرية المسلمات التي تسود مجتمعا ما. كما يجد الفنان العربي نفسه في مواجهة تيارات فكرية واجتماعية تنظر إليه بعين الحذر، وأنظمة سياسية لا تقبل تعرية الواقع بمشكلاته خوفا على هيمنتها. وبالنسبة إلى قياس المعرفة في البلدان العربية فهو ليس بالأمر السهل فالمعرفة تكوينات مجردة أو رمزية في الأدمغة يكاد يستحيل الامساك بها ولو فكرا، ناهيك عن وضع قياسات محددة لها. لذلك تبدأ محاولة القياس بدراسة مؤشرات للجوانب الاساسية لاكتساب المعرفة في البلدان العربية مقارنة ببلدان ومناطق أخرى في العالم. إن بيانات التعليم الأكثر توافرا وصدقية تتصل عادة بالجانب الكمي المتمثل في مدى الالتحاق بالتعليم بينما تقل البيانات عن جانب النوعية وتتدنى صدقيتها

العدد 415 - السبت 25 أكتوبر 2003م الموافق 28 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً