إلى متى تواصل «إسرائيل» مع الصهيونية العالمية متاجرتها ببضاعة «العداء للسامية»؟
- طالما بقيت لهذه التجارة مردودات وأرباح. لكن كيف بقيت رائجة وقادرة على تحقيق المكاسب، وهي بضاعة مزيفة ومغشوشة؟
- طالما بقي لها زبائن يشترونها خوفا من نقمة صاحبها. يعني طالما بقيت الشجاعة الأدبية والسياسية، بضاعة مفقودة وبأحسن الأحوال نادرة، في السوق الإعلامية والسياسية والدبلوماسية. فغياب التصدي العنيد والمنظم لهذه المعزوفة المزورة وعدم التجرؤ على فضح حقيقة أغراضها ومراميها، سمح لـ «إسرائيل» وأبواقها بالتمادي في اللعب الابتزازي على أوتارها وجني فوائد جمّة للكيان الصهيوني، منذ قيامه وحتى اللحظة. وقد تراوحت هذه الفوائد بين رضوخ دول كثيرة للمطلب الصهيوني بفتح أبواب الهجرة أمام جالياتها اليهودية إلى «إسرائيل»، وبين سكوت معظم أصوات الاعتراض والرفض - وقطع الطريق على المحتمل منها - إزاء سياسات «إسرائيل»، كما إزاء سياسات الدعم والتأييد والاحتضان، التي اعتمدها الغرب عموما وواشنطن خصوصا، تجاه تل أبيب.
ونجحت الصهيونية، ربما أكثر مما توقعت، في تسجيل الإصابات المباشرة التي سعت إليها في هذا الخصوص، بعدما تمكنت وببراعة - ساعدتها في ذلك ظروف وعوامل مؤاتية من تحويل مقولة «العداء للسامية»، من واقعة اضطهاد تاريخية قديمة إلى ورقة سياسية دعائية ضاغطة، مجيّرة لمصلحة «إسرائيل».
«اضطهاد اليهود»، كانت أوروبا ساحته الأصلية، ولعدة مئات من السنين. وحتى قبل مجيء المسيحية. وقد أخذ أكثر من شكل. مرات كان يجرى نبذهم والتعامل معهم كجسم غريب في المجتمع. ومرات كان يجرى طردهم ومنعهم من العيش في بعض المجتمعات والبلدان - منها مرة بريطانيا، قديما. وتراوحت الأسباب بين نبذهم لاعتبارات دينية تتصل بمسئولية اليهود عن صلب السيد المسيح، وبين النفور منهم لكونهم كانوا جماعة تثير الارتياب لانعزالها عن بقية المجتمع وانطوائها على نفسها وخصوصا لتعاليها على الآخرين. وبشكل أخص لأن اليهود اشتهروا بممارسة الربا الفاحش واستغلال حاجة المضطرين للاقتراض، والمعروف عنهم تاريخيا أنهم كانوا دوما ينقلبون على تحالفاتهم ليلتحقوا بمن انتقلت إليه الدفة في السياسة وصار في موقع النفوذ. كذلك المعروف أنهم مارسوا الاضطهاد بحق المسيحيين في الثلاثمئة سنة الأولى من عمر المسيحيين. كل هذه الخصال والسلوكيات جعلت منهم هدفا للاضطهاد الذي كانت أبرز محطاته في إسبانيا، اثر سقوط الأندلس وفي ألمانيا أيام النازية الهتلرية.
في المقابل يسجل التاريخ أن اليهود عاشوا «عصرهم الذهبي» في ظلّ الدولة الإسلامية، إذ شعروا بالأمان والحماية أكثر من أي وقت أو مكان مضى.
مع قيام «إسرائيل» الذي تزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سارعت الحركة الصهيونية ومكنتها الإعلامية - الدعائية إلى حبك مقولة «العداء للسامية» والبدء في ترويجها، كاحدى الأدوات الفعالة في تصليب عود الكيان الفتي وتأمين أوسع التفاف حوله كسب المزيد من التعاطف والتأييد له، وذلك على قاعدة الاستفادة إلى أقصى الحدود من «عقدة الذنب» عند الغرب، بسبب الهولوكست. وقام هذا الحبك على تزويرين تاريخيين: - تصوير الاضطهاد التاريخي الأوروبي لليهود بأنه كان معاداة للسامية. يعني معاداة عنصرية. في حين أنها كانت موجهة ضد سلوكياتهم. الاغفال والحجب المتعمدين للشق الثاني من السامية، المتعلق بالعرب بحيث صارت حكرا على اليهود - عبر اسحاق - وسقط منها العرب عبر اسقاط إسماعيل ونسله من المعادلة. وكأنه لم يكن ابنا لابراهيم وشقيقا لاسحاق. وبذلك صارت السامية مقتصرة في الذهن الغربي الجديد، على اليهود. وتأسيسا على هذا الحصر التعسفي انطلق العمل بهذا السلاح لتحقيق غرضين أساسيين استراتيجيين: الأول كان لحمل ما أمكن من الدول، التي كانت تعيش فيها جاليات يهودية واسعة، على السماح ليهودها بالهجرة إلى «إسرائيل»، التي كانت بحاجة ماسة إلى العامل السكاني. وكان التصويت يومذاك موجها بصورة أساسية نحو الاتحاد السوفياتي والدول العربية، وذلك من خلال افتعال تهمة «العداء للسامية» في تلك الساحات وبالتالي مطالباتها بترك «الساميين» فيها ليغادروا إلى «إسرائيل» كبلد ليهود العالم كافة!
وأفلحت تلك الحملة إلى حد بعيد، إذ وضعت لها الصهيونية قوى ووسائل ضغط نافذة في الغرب، مستفيدة من تغلغلها وبداية وصولها آنذاك إلى مواقع التأثير في القرارات السياسية والإعلامية والمالية؛ الغربية عموما والأميركية على وجه التحديد. من هذه الوسائل مثلا كان حمل الكونغرس الأميركي على التصويت على ما سمي وقتذاك بقانون جاكسون - نسبة إلى السيناتور جاكوب جاكسون الذي اشترط على موسكو موافقتها على هجرة يهودها إلى «إسرائيل» مقابل منحها تسهيلات تجارية - بيعها القمح - وتخفيف التشدد في التعامل معها. ووافقت موسكو لاحقا وبدأت أفواج اليهود الروس بالزحف إلى «إسرائيل».
وقد حصل الشيء نفسه تقريبا مع مصر من خلال ما يعرف «بفضيحة لافون» عندما سقط الجواسيس الإسرائيليون في يد المخابرات المصرية، الذين حاولوا التخطيط لعمليات تخريب واسعة، وكان منها اغتيال بعض اليهود المصريين بهدف خلق الذريعة التي تسمح بافتعال الزعم بأن هناك خطرا على يهود مصر ما لم يسمح لهم بالهجرة إلى «إسرائيل».
الغرض الثاني كان لإسكات واخراس أية معارضة، سياسية أو إعلامية أو فكرية لإسرائيل وسياساتها. وبشكل خاص لسياسات الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي، التي كانت، ومازالت تنتهجها العواصم الأوروبية وواشنطن خصوصا، تجاه «إسرائيل». فالصهيونية أدركت منذ البداية أن مثل هذا الدعم ليس أقل من أنبوب الأوكسجين الذي لا غنى عنه لقيام «إسرائيل» واستمرارها. وبالتالي فإن أي تخريب على استمرارية الضخ من خلاله، هو بمثابة حكم الإعدام على الكيان الناشئ. وقد كان لها ما أرادت، وإلى حد بعيد. فمن تجرأ على المجاهرة بمؤاخذه على تل أبيب أو على دعمها لكان يرمى فورا بحجر «معاداة السامية» وبالتالي وصمه بالعنصرية وهو الداء - العقدة القاتل - خصوصا في أميركا - لأي سياسي أو إعلامي أو على الأقل هو سلاح يؤدي إلى عزلته. وإذا كانت هذه التهمة لا تسكته، لأنه يمتلك الشجاعة أو الصدقية، فإن مجرد اطلاقها ضده كان يخيف غيره ويقطع عليه طريق التصدي لهذا التزوير. وبقدر ما كان هذا السلاح يبدي فعاليته بقدر ما كانت «إسرائيل» وأبواقها تلجأ إليه وتوسع اطار استخدامه، بحيث بات يستعمل ضد كل من يتجرأ على عبور هذا الحاجز. وآخر النماذج كان في الأيام الأخيرة عندما أقاموا الدنيا، من خلال هذه التهمة ضد مهاتير محمد الذي لم يتردد - وطبعا لم يهرول إلى الاعتذار كما فعل غيره - في قول كلمته عن هيمنة اليهود. أو بالأصح عن رضوخ الآخرين لليهود. كما قامت القيامة ولم تقعد على الرئيس جاك شيراك لأنه مانع في تضمين البيان النهائي لقمة الاتحاد الأوروبي، إدانة لتصريح مهاتير محمد.
المطلوب من الآخرين أن يحذوا حذو مهاتير محمد وشيراك لقطع الطريق أمام هذه التجارة البغيضة وقطع رزق أصحابها في تكميم الأفواه وتزويرهم للحقائق والتاريخ
العدد 413 - الخميس 23 أكتوبر 2003م الموافق 26 شعبان 1424هـ