قبل نحو 5 سنوات، عندما وقع في يدي كتاب (مانديلا: السيرة الموثقة) لأنطوني سمامبسون رحت بكثير من الفضول والتعطش أتصفح أوراق الفصل الأطول من حياة هذا الرجل /الملحلمة، والفصل الأطول من حياته بالطبع لن يكون سوى سنوات الاعتقال القاسي الذي دام 27 عاماً (1962 - 1990) قبع فيها مانديلا في زنزانة نظام الفصل العنصري كأشهر سجين سياسي في القرن العشرين.
عمداً بدأت بالجزء الأشد إيلاماً من حياة هذا الرجل الذي تحول إلى رمز للكفاح الوطني ضد التمييز العرقي في معركة نيل الحقوق التي لم تنتهِ بعد، بدأت من هذه الصفحات لأرصد كيف كانت البداية لأفهم معنى النهاية؟ وكيف حقق مانديلا حلمه وحلم الأفارقة وما الفاتورة التي دفعها من عمره؟ اخترت أن أبدأ بتجربة الاعتقال والسجن لإيماني بأنه وفي كثير من التجارب البشرية التي حكى عنها التاريخ، يصبح السجن مفتاحاً لحرية الشعوب، والقيود على معاصم الأحرار علامة النصر الوشيك.
مانديلا رجل عظيم بحق، وعظمته تتجسد في منعطفين من حياته التي امتدت قرناً كاملاً إلا خمساً: منطعف الاعتقال ومنعطف رئاسته لجنوب إفريقيا. في المنعطف الأول، تبدو قصة سجن مانديلا ذات قيمة فريدة بما توفره من زخم إنساني، فهي مسرحية صادقة حميمية أكثر مما هي مهرجان تاريخي واسع المدى، ففي سجنه تحول هذا المناضل الفذ من «ناشط عنيد إلى رجل دولة عالي المستوى، كثير التأمل، ذاتي الانضباط».
الجميل في كتب السيرة، أنها تضع الحقائق المتصلة بأبطالها في سياقها الحقيقي اعتماداً على ما توفره الوثائق والشهادات الحية، من هنا حرص سمامبسون في كتابه الشيق والضخم عن صديقه الأسمر استقصاء أثر «سوء الفهم وسوء التصرف اللذين تعامل بهما العالم الغربي مع حركة النضال المدني في جنوب إفريقية في الستينات والسبعينات، وكيف خُدع وضُلل في كل ما له علاقة بمانديلا ورفاقه». يبدو أن سوء الفهم دائماً ما يتربص بحركات التحرر، من هنا فهي بكل تأكيد ليست عاهة عربية خالصة، فحيثما يوجد الجشع الإنساني توجد الجريمة.
وحتى نفهم معنى النضال الذي خاضه مانديلا ورفاقه، يجب أن نعرف ملابسات نشأة النظام العنصري «الابارتيد» الذي ظل يحكم البلاد من قبل الرجل الأبيض. نزل البيض بمدينة الكاب للاستراحة وهم في طريقهم إلى الهند أو إلى أميركا، ولم يكن بإمكان السود قبل المصالحة التاريخية أن يروا فيهم غير ضيوف تحولوا إلى غزاة عليهم أن يرحلوا.
كانو خليطاً من ألمانيا وبريطانيا وإيرلندا قد ركبوا البحر بحثاً عن أرض بكر جديدة، منهم من وصل إلى العالم الجديد (أميركا) ومنهم من أعجبته أرض آزانيا في جنوب إفريقيا فاستقر بها... ولأنهم كانوا يريدون الاستفراد بهذه الجنة الأرضية التي وعدهم بها الله! فقد كان عليهم أن يخوضوا في البداية حرباً ضد الأهالي ثم حرباً طويلة الأمد مع الإنجليز الذين جاءوا للاستحواذ على كنوز الفضة والذهب والماس التي عثروا عليها. وهؤلاء هم من شكلوا النخبة الحاكمة والطبقة المتنفذة التي شكلت العمود الفقري لنظام الفصل العنصري.
«سيكون خاسراً كل من يحاول حرماني من كرامتي، سواء كان ذلك شخصاً أو مؤسسة». هكذا قال مانديلا، صحيح أنه سجن، لكن السجن في النهاية ليس هو سجن الجسد، بل هو سجن الأمل، ومانديلا لم يفقد الأمل في يوم من الأيام، ولأجل ذلك كان حراً وهو سجين، بينما كان آخرون سجناء وهم يظنون أنهم أحرار خارج قضبان السجن، ذلك أن الحرية ليست وضعاً، بقدر ما هي موقف وإيمان.
أما في منعطف الرئاسة، التي جاءت إليه تسعى في العام 1994 في أول انتخابات حرة وعامة (سوداً وبيضاً) تشهدها البلاد منذ تأسيس اتحاد جنوب إفريقيا عام 1910، فيمكن القول إنها كانت اختباراً لصدقية الزعامة عند مانديلا، ولتلك المبادئ التي ظل يؤمن بها طوال حياته، فهاهي الغالبية الوطنية السوداء تصل إلى الحكم، بعد قرون من الهيمنة البيضاء، فهل ينتقم لتلك الظلامات الفظيعة التي عانى فيها الأفارقة السود؟ وهل سيقوم مانديلا بفرض «أبارتيد» أسود انتقاماً من الأبارتيد الأبيض؟
لم يحدث شيء من ذلك، وظل مانديلاً حريصاً على النموذج الديمقراطي الذي بشر به دائماً، حتى في أحلك الأيام سواداً، مفضلاً خيار التعايش السلمي بين مختلف الأعراق والجماعات. لم يحاول استثارة الأحقاد، فقد أتلف إلى الأبد دفتر الماضي فاتحاً صفحة جديدة عنوانها الإيمان المطلق بقيمة الإنسان وحقه في الحرية والعدالة والمساواة.
منذ البداية كان طريق مانديلا البحث عن الخير والطيب والفطري في الإنسان، من هنا كانت استراتيجية اللاعنف التي تبناها مانديلا هي طريقه من أجل تغيير الأوضاع في جنوب إفريقيا ومحاولة القضاء على نظام «الأبارتيد» العنصري، في تلك الأوقات العصيبة التي كانت فيها الحركة الوطنية الإفريقية وعلى رأسها حزب المؤتمر ترى أن لا بديل إلا للكفاح المسلح.
في كل حياته لم يكن هذا المناضل حاقداً على البيض، بقدر ما كان ناقماً على الأوضاع اللاإنسانية التي يعانيها الجميع، بيضاً وسوداً على السواء، وهنا تكمن النظرة الإنسانية العميقة. يقول المفكر الفرنسي ألبير كامو: «أن يكون رجل واحد مقيداً يعني أننا كلنا من المستعبدين». ولقد كانت جنوب إفريقيا كلها، مقيدة، لأنها محرومة من الحس الإنساني بسلوكها العنصري وأنظمتها الجائرة.
ترجل هذا الفارس السمهري الملون في الخامس من شهر ديسمبر/ كانون الاول 2013، وخلف في قلوب أحرار العالم حسرة وألماً بالغين. لكنه خلف وراءه دروساً عظيمة أرجو أن يتعلمها العالم والأنظمة العربية خصوصاً، لأنها الأكثر جهلاً بهذه القيم التي تركها مانديلاً في ثراء تجربته المتفردة في الحكم والتي تجاوز فيها أحقاد الماضي طمعاً في سلام دائم لشعبه... وما أكثر العبر وأقل الاعتبار.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4112 - الإثنين 09 ديسمبر 2013م الموافق 06 صفر 1435هـ
العبر
كثرت العبر وقل الاعتبار