احتفلت سفارات فلسطين في مختلف دول العالم بعيدها الوطني في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وهو عيد إعلان قيام دولة فلسطين في القمة العربية بالجزائر العام 1988. وقد لمست أن احتفال السفارة في مملكة البحرين كان احتفالاً متميزاً بكل المعايير من حيث مشاركة صغار أشبال فلسطين مرتدين الكوفية الفلسطينية المعروفة، ومشاركة المرأة الفلسطينية، والتواجد الوجداني للزعيم ياسر عرفات رحمه الله، حيث كان هو الحاضر الروحي في الكلمة الضافية التي ألقاها سفير فلسطين طه عبد القادر. كما كانت مشاركة مملكة البحرين على مستوى رفيع يعكس الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني من قيادة وحكومة وشعب البحرين، وجاءت الكلمة التي ألقاها وزير الدولة للشئون الخارجية السيد غانم بن فضل البوعينين مفصّلةً وموضحةً مدى الدعم البحريني لقضية فلسطين ومشاركته هو شخصياً كممثل للمملكة في الكثير من الاجتماعات العربية والدولية الخاصة بذلك.
والواقع إن مشاركة وزير الدولة كانت محل تقدير في كثير من الأعياد الوطنية لما يتميز به من هدوء وتواضع، أما كلمته في حفل فلسطين فقد تميزت بالرصانة والموضوعية وكانت نابعة من القلب. واتسم الحضور البحريني بكثافة واضحة، فوزيرة الإعلام سميرة رجب بشجاعتها المعروفة في مواقفها، ونبيل الحمر مستشار جلالة الملك، ووكلاء وزارة الخارجية وسفراء الدول العربية والأجنبية، والكثير من الشخصيات العامة ورجال الأعمال والمثقفين السياسيين. وكان السفير الفلسطيني قد استبق الحدث بمقابلة مفصلة نشرتها صحيفة «البلاد» على صفحتين كاملتين.
وبعد ذلك حملت الأخبار التصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعوته للرئيس الفلسطيني لإلقاء خطاب في الكنيست يعلن فيه اعترافه بـ «إسرائيل» كدولة يهودية، وبالارتباط اليهودي بهذه الأرض على مدى 4 آلاف عام. ومثل هذا التحدي من نتنياهو بأنه سيعلن من رام الله اعترافه بدولة فلسطين، فهو مثل قطعة من الشوكولاتة حلوة المذاق جميلة المظهر الخارجي، ولكنها مسمومة. ولتوضيح ذلك نقول إن يهودية «إسرائيل» أساساً هي يهودية غير ثابتة تاريخياً، فدولة «إسرائيل» قامت لمدة لا تزيد عن سبعين عاماً في عهد سيدنا سليمان، ثم انقسمت مملكته بعد وفاة ولديه الاثنين، وأصبح بينهما عداء مستحكم، وبالطبع سيدنا سليمان لا يخص اليهود وإنما يخص الأديان السماوية الثلاثة، وهو ليس يهودياً وإنما هو إسرائيلي بمعنى انه من نجل سيدنا يعقوب الذي غير اسمه إلى إسرائيل بناء على توجيه من الله سبحانه وتعالى، ولكن ما سمى بالعهد الذي أعطاه الله لسيدنا يعقوب بأن هذه الأرض له وأولاده هذا كلام موضع خلاف ونقاش، فالبعض ينسبه إلى سيدنا إبراهيم والذي له ولدان إسماعيل وهو الأكبر سناً، وإسحاق، ثم أن الله سبحانه وتعالى إذا صح إعطاؤه مثل هذا الوعد فان ذلك يشمل كافة بني إبراهيم، أي العرب من سلالة إسماعيل واليهود من سلالة إسحاق. ولكن مسألة العهد هذه مشكوك فيها فالله هو مالك الأرض والسموات، وخلق آدم ليكون خليفةً له في الأرض، ومن ثم لا يتوقع منطقياً مثل هذا التقسيم لليهود.
وبغض النظر عن المنطق، لو افترضنا صحة ذلك فهو لسلالة يعقوب وليس لأي يهودي، أي أشخاص من جنسيات عديدة ممن اعتنقوا اليهودية، ولا يعقل أن يحرم الفلسطينيون من الوعد وهم كانوا في أرض كنعان قبل الإسرائيليين، وتصارعوا منذ قديم الزمان. ومن ثم فإن مقولة نتنياهو مقولة مرفوضة لعدة أسباب تاريخية، هي موضع جدل وشكوك وهو يطالب الفلسطينيين بالاعتراف بالتاريخ اليهودي غير الحقيقي، ثم إن الفلسطينيين في أرض 1948 لهم حقان، أولهما حق خاص بمن مازالوا في ديارهم، والثاني حق العودة لمن هاجروا قسراً وتحت الإرهاب والقتل عبر السنين من عصابات الهاجاناة وغيرها من العصابات اليهودية التي جاءت من أوروبا ومن شتى مناطق العالم.
أما المقابل الذي سيقدمه نتنياهو فهو ثمن بخس: إنه كلمة عابرة في الهواء لا معنى لها، فالعالم في معظمه يعترف بفلسطين بما في ذلك الولايات المتحدة في مبادرتها بمقولة حل الدولتين، والأمم المتحدة بقرار التقسيم العام 1947. إذاً ما هو الجديد الذي تضمنته مبادرة نتنياهو هو طرد الفلسطينيين من أراضيهم الموجودين فيها داخل دولة «إسرائيل»، وحرمان اللاجئين من حق العودة، أي أن المطلوب من «أبو مازن» أن يدفع ثمناً كبيراً مقابل سمكة صغيرة لم يتم اصطيادها حتى الآن من أعماق المحيط.
ولكن لعبة السياسة الدولية لنتنياهو هي إظهار عدم وجود زعيم فلسطيني للتفاوض معه، وأنا أعتقد أن هناك من الفلسطينيين من يستطيع تقديم طرح مقابل لرمي الكرة في ملعب «إسرائيل». والطرح المقابل هو أن يأتي نتنياهو ويعلن أولاً ويقوم بإجراءات محددة بقبوله قرار التقسيم، وأن يطلب من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الإشراف على تنفيذه. هذا هو الطرح الممكن وبالطبع سيرفضه نتنياهو.
ويمكن تقديم طرح آخر بأن يأتي نتنياهو ويعلن قبوله قيام الدولتين على أراضي حدود يونيو 1967، ويتم سحب المستوطنات من الضفة مقابل عودة اللاجئين لأراضي الدولة الفلسطينية، وهذا يعد تنازلاً فلسطينياً كبيراً ومن يرغب في البقاء من اليهود الذين في المستوطنات يبقى خاضعاً للسلطة الفلسطينية ويحمل جنسية دولة فلسطين مقابل حمل الفلسطينيين المقيمين والموجودين في «إسرائيل» بحدود ما قبل يونيو 1967 للجنسية الإسرائيلية.
وأنا على ثقة بأن العقول الفلسطينية سوف تبدع حلولاً ومقترحات أخرى، ولكن أخطر ما في الأمر أن يجلس الفلسطينيون يرفضون كل شيء دون أن يقدّموا بدائل، ومن ثم تترك «إسرائيل» كسلطة احتلال تقتطع أراضي فلسطينية وتقيم عليها مستوطنات مع مرور السنين، فلا يبقى شيء من الأراضي لقيام دولة فلسطين.
المشكلة الثانية التي ركزت عليها الأخبار العربية والدولية هي معاناة المواطنين الفلسطينيين في غزة من الحصار الظالم المفروض عليهم ومعاناة النساء والأطفال والمرضى من انقطاع الكهرباء بعد أن توقف البترول والغاز الذي كان يسرق من مصر عبر الأنفاق في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، الذي رهن سيناء للإرهاب ورهن اقتصاد مصر وأمنها لحماس الأخوانية، ولذلك ثار ضده الشعب المصري إلا قلة من المخدوعين بفكر الإخوان وأحلامهم الوردية. والسؤال الذي نطرحه أن معاناة غزة هي في جزء منها مفتعلة لأن الحصار نتيجة السياسة الخاطئة لحكومة حماس، ورفضها المصالحة مع السلطة في رام الله، ورفض احترام السيادة المصرية، ورفضها الاعتراف بإسرائيل، وهي دولة قائمة سواء وافقت حماس، أو لم توافق بل إن حماس ذاتها قبلت أكثر من مرة الهدنة معها. فلماذا لا توافق بطريقة أكثر مصداقية فيرفع الحصار الإسرائيلي عنها.
إن منهج خداع النفس لن يفيد، ولكن منهج السلام الحقيقي هو المطلوب والسياسة الحقيقية. وحكومة حماس تقمع أي تحرك من الفصائل الأخرى ضد إسرائيل وترفع شعارات النضال كما رفعت سورية والعراق وغيرهم من الدول المنتمية لما يسمى «جبهة الصمود والتصدي» أو الممانعة، والتي تحوّل اسمها الحقيقي لجبهة الجمود والتردي والنضال عبر الميكروفونات، وتشهد على ذلك الجولان المحتلة التي لم تطلق منها طلقة واحدة ضد إسرائيل على مدى أكثر من أربعين عاماً.
إن جميع الشعوب تثور ضد حكامها إذا لم يحققوا مطالبها، فلماذا لا يثور شعب غزة على حكامه ثم يشتكي من المعاناة؟ ولماذا لا يتم إجراء انتخابات جديدة في غزة الأخوانية؟ أم أنها حقيقة أن الإخوان يعملون من أجل ديمقراطية الانتخاب للمرة الأولى والأخيرة. هل من عقلاني يفيدنا لماذا تصر حماس على رفض أية انتخابات نيابية أو رئاسية؟ ولماذا لا يتحقق الوفاق والمصالحة الفلسطينية؟ وإذا كان المواطنون في غزة مغلوبين على أمرهم فيمكنهم أن يثوروا كما ثارت الشعوب في سورية وتونس ومصر وليبيا. وإذا كانت حكومة حماس مبعوثةً من الله سبحانه وتعالى فيمكنها أن تخرج بالشعب الفلسطيني من غزة إلى أرض الميعاد المحتلة في فلسطين كما خرج سيدنا موسى من مصر إلى أرض إسرائيل، وها هي إسرائيل الحديثة تحتل أرض فلسطين. هذه تساؤلات تبحث عن إجابة من شعب فلسطين، وهو شعب يتميز بالذكاء والثقافة والجد في العمل. ولكنني لا أستطيع أن أفهم كيف يرزح شعب تحت نير احتلال استيطاني دون أن يقدم تضحيات بدرجة أكبر؟ وكيف يصبح بعض قادة من هذا الشعب من كبار الأثرياء والشعب يعاني؟ وكيف كانت عوائد التهريب من خلال الأنفاق عبر الحدود المصرية مع غزة تدر أرباحاً ضخمة لقادة حماس الذين أصبحوا من الأثرياء والشعب يعاني؟
لك الله يا شعب فلسطين، ولكن الله يساعد من يساعدون أنفسهم، ولا يفعلون كما قال اليهود في الزمن القديم لسيدنا موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، بل يجب أن يقولوا لشعبهم لنذهب جميعاً كما قال الأنصار لسيدنا محمد: لو خضت بنا البحر لخضناه معك. وهذا هو ما ينبغي أن يقوم به شعب فلسطين، وفي هذه الحالة سيحترمه العرب والعالم بأسره شريطة أن يكون تحركه سلمياً بعيداً عن العنف الذي أدى لمزيد من النكبات لهذا الشعب الشقيق عبر العقود الماضية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4104 - الأحد 01 ديسمبر 2013م الموافق 27 محرم 1435هـ