في رواية «مريم» لحسين المحروس، الصادرة عن دار مسعى للعام الجاري (2013)، والتي كتبت في العام نفسه بجهاز «الآيفون»، بتوقيت إصدارها في هذا الزمن المتفحّم ببشره الاصطناعيين يرِد: «في داخل (البرستجات) قليل من الحاجيات وكثير من الحياة». تأخذك إلى نقاء ينهض من طبيعته التي وجد عليها من دون مساحيق وفرقة كنس للقبح الذي يمكن كنسه. كماء طهور يقدّم لك الناس والمكان والأصوات والصمت والعناء. يستفزّك بـ «الجملة... اللقْطة» وقد فضحت الزوايا والأبعاد، وهو «شاعر الكاميرا» كما أسْميته وهو كذلك: «في بيتنا الخشبي الصوتُ عن ألْف صورة»!
لا أحد يقوى على تتبّع حواس البشر عدا تتبّع حواس التفاصيل من حولهم، أولها المكان/ الملاذ/ المأوى/ سماء أي منا: البيت. يرِد في «مريم»: «يتغيّر لون البيت عندما تأذن جدتي مريم أو أمي لـ (الحجّامة) بالدخول إلى بيتنا».
تتغيّر طقوس البيوت وأخلاقه، فينفلش العالم في الخارج. يضطرب في البيت، فتستقبلك فرق الضجر في الخارج. الوطن بيت. الأوطان تعرفها من بيوتها التي لا مساحة لها في كل هذا البازار المفتوح على الفضائح. لا مساحة لها من الذاكرة إلا حين تريد تلك الذاكرة أن تذهب إلى مستقبلها المؤقت والضروري مؤقتاً أيضاً.
في «مريم» أيضاً ليس فقط الهزال هو الذي «يحرّك القلب كلما تحرّكت المينة»، النسيان في ظل الاطمئنان على ريّ البشر وخضرة أرواحهم. لذلك تجدها «تكره أن تدور المينة، وأن لا ترى القلب».
لا زمن من دون قلب. الأزمنة التي نحياها طولاً وعرضاً لن يتأتّى لها ذلك من دون قلب. الأوّلون لا يحيون بثروات نادرة. الندْرة لا تصنع الحياة.
الوفْرة تفعل ذلك. القلب كان وافراً وإن شحّت الثروات. و»قليل من الحاجيات وكثير من الحياة» تختزل جانباً من ذلك المعنى والتقاطته.
هي ذاتها التي تحصّن أرواحنا من التيه والتلف والتبَع. هي ذاتها في «أول الصباح امرأة تحصّنت بالماء أكثر من الحياة». ليس شرطاً أن يكون في الحياة ماء. لكن في الماء حياة. أول الدرس ولا آخر له: هي نفسها والدة الجدّة مريم: آمنة بنت حسن «تدخل البستان، تعتمد خارطة السمع والشمّ وما تبقى من الذاكرة في العيون. تعتمد القلب»! لا أحد يعتمد القلب في زمن الوشاية. في زمن السعي بقدمين حافيتين لتخريب مرح أو مشهد فيه نضارة أو ما يومئ إلى خفقان!
يفتقده بشر زمن لا يشعرون برواء ما لم يظمأ خلْقٌ... «تغيب الهديّة آمنة بنت حسن عن البيت كل صباح فإذا سألتْ امرأة عنها قالوا لها: راحت تمطّر لبيوت أهلها والمساجد. فتدعو لها بالخير والعافية بجاه قتيل الماء. وقد يقولون: آمنة تمطّر. ولا يزيدون. لكنهم يشعرون بالحياة».
جنباً إلى جنب، ما يُكمل روح وفعل آمنة بنت حسن و»مريم» رجل «يأتي من الشرق، من سوق المنامة ساعة الغروب على درّاجة هوائية بيده عصا طويلة يُشعل بها مصابيح الشوارع وأزقّة الحي. يعرف موقع المصابيح المتباعدة في الحي. سوف يعود في الصباح الباكر ليطفئها واحداً واحداً. يفعل ذلك كل يوم كساحر في عجلته عجلة تعاقب الليل والنهار. يسمّونه: أبو الليتات؛ أي (المصابيح)».
من يضيء النَفَس والروح بالماء، ومن يضيء التفاصيل من حولها. نفتقد الاثنين معاً وللمرة الثانية في أزمنة الملح والرَّمَد وصناعة التعتيم والمجتمعات المركّبة بفعل السياسة، وبفعل موهبة التحويل الجهنّمي للمستورد الذي يتحول إلى أصْل، والأصْل الذي يتحول إلى مستورد!
الحنين لا يتأتّى إلا من فراغ، فقْد، هيَمنة تشوّه، استلاب. ليس حميد الملَك وحده الذي «توفي فجأة» ذلك الذي رحل فرحلت معه الأسماء كلها، وخارطة الحيّ». هكذا في منغصّات الحياة التي هي جزء من أثاثها من وما تحب يرحل أو يختفي فجأة. ليست الفجأة وحدها، تلك التي لم نتوصل إلى تفسير لها. كثيراً ما تكون الفجأة منا. مصدرها نحن؛ بخفوت حضور، وعناق كثيراً ما نحترف تأجيله. هكذا يتعمّق الفقْد أكثر، وهكذا يمارس الحنين درسه القاسي والمُذلّ لنا في كثير من الأحيان! «مريم» وغيرها من فعل ونتاج إبداعي ملفت وآسر وبسيط وعفوي محتفظ بعمقه في الوقت نفسه، لا تأتي إلا في لنقيض من تلك الأرواح المجتمعة في روح. إلا في سيادة الملح والأسفلت والغرباء والبشر الاصطناعيين. تستدرج وتستفزّ الذي كله أعين ورصْد للتفاصيل التي هو جزء منها عبْر أكثر من أداة رؤية وتقصٍّ. كلما تعدّدت الأدوات تلك كلما كان التصدّي للقبض على تلك التفاصيل كالتصدّي للقبض على جمر من نوع آخر. جمر زمن يمعن المهيمنون عليه في شحْنه بما يشوّهه سلوكاً وممارسة واستيراد أدوات تشويه لا تنتمي إلى الزمن الجميل؛ بل إلى النقيض منه. زمن يعجّ بالقبح، بالطارئ من البشر والقبيح بما يسيّر أولئك البشر! في «مريم» ستجد مساحات من الشعر لن تجد في كثير من النصوص. ستجد الحكمة في بيئتها الفطرية الأولى. البيئة التي لم يمسسْها سوء أو غصَب وإن بدّلوا تبديلاً. ستجد ضوءاً في سخرية ضالعة في حكمتها. ستجد حلقات مشْرَعة على المكان والوقت والشخوص وما يُكاد لها وما تحاول أن تُكيده.
ستجد «مريم» ستجد وجه آمنة بنت حسن التي «غطّت وجهها» حتى نسيه الأهل. ستجد الطفل عيسى بن مريم. ستجد «الوجه استراحة الوردة». ستجد نفَسَ «السيجة» وتبتّل التطريز. ستجد ذلك «الغريب» الذي «لا يلتفت». ستجد «حميد» و»علي الملَك. وأيضاً ستجد «سيرة الخضاب» التي انقطعت «في العرس» أو «الغرْس» لا فرق!
في بضَع كلمات: «مريم» استدعاء ورصْد للزمن الجميل ببشره الأجمل. حنينٌ مُكْلفٌ في زمن أصبح فيه الحنين ضمن قائمة من التهم!
من يقرأ رواية «مريم» للمحروس سيصاب بحنين للزمن الجميل والبشر الأجمل!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4100 - الأربعاء 27 نوفمبر 2013م الموافق 23 محرم 1435هـ
بحريني ليبرال
انت دائما تحترم عقولنا بالمقالات.شكرا أ.جعفر الجمري