نظرا لما راهنه الفكر العربي الإسلامي من مفاعل قاسية ارتجعت معها تكويناته الفكرية والدينية ومالت نحو الاجترار والاحتباس في أرثوذكسيات الطائفة والسلطان، ولأن الأجهزة التأويلية المحاطة بكيانات الفعل الثقافي والديني كانت تخضع مدة مديدة لتمثلات مسبقة غلبها الوهم والإيهام، فقد كان من الطبيعي أن يتلبس هذا الفكر باغترابه الطويل عن الواقع ويلتجئ إلى مغلقات الذاكرة مستعيدا ما هو جاهز من نظم ومفاهيم وأحكام تدير علاقته مع الخارج. ومع الاجتهادات المتوالية التي قوّضت أصول هذه الحالة أضحى الطريق مفتوحا على تواصل آخر يتخطى معه المخاتلات اليائسة لتبدأ الاشتغالات الإسلامية الجديدة في الاتجاه نحو إعادة الاعتبار للواقع بوصفه مرجعا للمعالجة والتقييم وأساسا في تشخيص مكونات ومقاصد النصوص والخطابات.
ومن المعروف أن الارتكاز على الواقع والاحتفاء به كان حاضرا في الكثير من الأدبيات التي ظهرت في مراحل الإصلاح والتحديث سواء في تاريخ النهضة الغربية أم في سياقات النهوض العربي والإسلامي، وفي حين كان الارتكاز منحى نزعويا عند البعض فإنه أخذ صفة الإسناد لدى البعض الآخر.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن السيد محمد باقر الصدر أولى في مدرسته الفكرية عناية متميزة بالواقع تكاد تقترب من الإحاطة التي يسعى يحيى محمد إلى التنظير لها عبر مشروعه الذي يطلق عليه مشروع (النظام الواقعي وفهم الإسلام). ومن الجدير ذكره هنا أيضا أن الصدر وإن لم يتوسع تفصيلا في البحث حول مرجعية الواقع إلا أن بحوثه التي لامست هذه المسألة تتميز عن مشروع يحيى محمد في بعدين، الأول في قيامها في التأسيس النظري الواسع الذي نهض به الصدر بشكل إبداعي ومتميز عن ماهو متوارث، خصوصا مع توفيقه إلى نحت مصطلحات مهمة شكلت إطارا نظريا ومنهجيا في قراءة الواقع وحركة النص من خلاله. أما البعد الآخر فيخص المشاركة الواقعية التي مارسها الصدر في تحريك مشروعه الفكري الواقعي، وهي مشاركة دفعت به إلى خوض مجادلات ومواجهات عنيفة مع مختلف الجهات والدوائر حتى أضحى في النهاية ضحية الدكتاتورية الدينية والفاشية السياسية على السواء.
الهم المركزي الذي يشتغل عليه يحيى محمد، الباحث العراقي المقيم في لندن، في كتابه (جدلية الخطاب والواقع) هو استئناف النظر في الطريقة التي اتبعها الأسلاف في التفكير والفهم الديني، وهي طريقة يرى يحيى محمد أنها ليست مصدرا موثوقا به في بناء المعرفة وكشف الحقيقة، كما أنها ليست بالأداة الصالحة التي يمكن الاعتماد عليها في علاج مشاكل الواقع وقضاياه المستحدثة. والطريقة المنهجية التي يراها الكاتب بديلا تبتدىء من أبراز دور الواقع في الفهم وذلك من خلال التأكيد على هذا الدور كحقيقة موضوعية، وعن طريق توظيف منطلقات الواقع ومضامينه باتجاه فهم النص. وقطعا لأي التباس فإن الكاتب يؤكد في مقدمة الكتاب اختلاف طرحه هذا عن مايسميه بالطرح العلماني الذي يسعى لنزع القدسية عن النص، فيسجل ارتباطه بالحقيقة الدينية وجذورها، ولكنه يرى أن الحقيقة الدينية هذه لا تلغي الواقع بل تعطيه الحق الأغلب حينما يجري التعارض. هذه الأطروحة يقيم لها الكاتب ثلاثة أقسام من الكتاب تتضمن عددا من الفصول.
في القسم الأول يجتهد الكاتب من أجل التأسيس النظري لرؤيته حول مصدرية الواقع باحثا عن مدلولات وتبعات كل من النص والواقع والعقل كمحاور أساسية لمعالجاته القادمة ليخرج بمحصلة مفادها أن النص ليس معزولا عن الواقع، وأن للواقع طريقته في التأثير على النص، كما يعمد إلى التوأمة بين النص والواقع من حيث الحديث عن الله تعالى ليصل إلى الواقع هو مقياس الفهم والتحقيق قبل أي اعتبار آخر. ومع أن المؤدى العام لهذا التنظير لا يخرج كثيرا عن المساق الديني العام خاصة في المدارس التجديدية المعاصرة، إلا أن السردية المفككة التي يقدمها الكاتب تُلقي ضعفا في الأداء البرهاني والصياغة النظرية. كما أن التعويل على القرائن الخارجية والحساب الاحتمالي وما هو ناجز في الوجدان والتجربة لتأصيل الواقع والارتفاع به لمستوى الضبط المعياري ليس بكافٍ في مجال التأسيس النظري أقله من باب سد موانع الفهم وتمييز الرؤية عن القراءات التي تبتعد مسافات عن التفكير الواقعي وتتبنى مباني ذاتية وإطلاقية.
يكثف يحيى محمد مساعيه من أجل البرهنة على مبناه الواقعي في الرؤية والتحليل وإعادة النظر، ويصل إلى حد الدخول في مناطق هرمنيوطيقية متعددة من مساحات المعرفة الإسلامية ليوحي باتساع الحضور الواقعي ومحورية الواقع في ذلك كله. ويبسط لأجل ذلك القسم الثاني والثالث من الكتاب حيث يسوق أمثلة تحليلية من المعتقد والتشريع تدعم ما يراه من حقيقة عدم تعالي الخطاب الديني على الواقع الذي نزل فيه، وتحديدا المجتمع العربي بكل محدوديته الزمنية وسياقه الظرفي. والحقيقة أن إطلالة الكاتب هذه أعطت الكتاب شيئا من الخصوبة والامتناع لما تتوافر عليه العروض من حصيلة معرفية وتحليلية مهمة تعطي الكتاب تقدما نقديا على أقرانه، إذ يخوض الكاتب في بحث مجموعة من الأفهام القديمة لنصوص الخطاب الديني ويبين فارقيتها المبينة مع الفهم المعاصر ما يعكس حقيقة التضاد بين المنهج المستند على الواقع، والآخر الذي يعوّل على بيان النص وحرفيته بطريقة النظام المعياري التقليدية. وقد كانت تناولاته النقدية التي طالت تفاسير النص القرآني مشحونة بالدلالات الخفية التي يمكن الذهاب بها بعيدا وإلى غير ما يريد الكاتب. فوقوفه عند تفاسير القدماء والمحدثين لآيات النجوم والأرحام والحجاب والنسخ... وكشف تصادمها مع فتوحات الواقع التكويني والسيميائي المعاصر، يُحيل تسلسل القراءة إلى فضاءات معرفية تصدم ذائقة الانتماء الديني وحساسيته. فمثل هذه الحفرية تدفع بالكاتب نحو الوقوع في مشابهة نسبية أراد نفيها عند مستهل الكتاب، إذ أن إيراده للشواهد العقائدية والتشريعية التي تبرز أثر الواقع في تغيير فهم نصوص الخطاب الديني تستجلب قسرا الطروحات الفكرية التي يقيمها مفكرون من طراز نصر حامد أبو زيد للتدليل على مؤديات نظرية تنسف الجذور الدينية التي قال المؤلف بأنه محتفظ بها خصوصا في إطار ثبات الحقيقة الدينية وصلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان. فأطروحة يحيى محمد لا تختلف كثيرا عن تلك التي يختصرها أبو زيد بقوله الصريح «إذا كانت النصوص الدينية نصوصا بشرية بحكم انتمائها للغة والثقافة في فترة تاريخية محددة، هي فترة تشكلها وإنتاجها، فهي بالضرورة نصوص تاريخية، بمعنى أن دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءا منه. من هذه الزاوية تمثل اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل» - الخطاب الديني، ص 139 -. ومثلما يعالج يحيى محمد موضوعات الخطاب الديني انطلاقا من واقع نزولها الأول في المجتمع العربي، فإن أبو زيد ينطلق كذلك من المجتمع العربي قبل الإسلام ليكون «من الطبيعي أن ينعكس هذا الواقع في النص لغة ودلالة وأحكاما وتشريعات» - ص142 -. إن التوحد حول فكرة عدم مفارقة النصوص والخطابات الدينية لبنية الثقافة والواقع التي تشكلت في إطارها لا يعني الاتفاق على المنطلقات والنتائج. فالكاتب ثبّت منذ البدء مقاصده المحمية بثوابت الدين والعقيدة، وحدّد غايته بالتجديد والإصلاح من داخل دائرة المقولات الدينية الكبرى سيما مقولة صلاحية تطبيق الشريعة المطلق. في حين يتجرد أبو زيد - ومن وصفه الكاتب بالتيار العلماني - من ذلك كله ويدع مضمار البحث مفتوحا على كل الاحتمالات التأويلية والمعرفية، ولذلك تتسع طرائق البحث في هذه القراءات وتتكاتف علوم السياق والإنسان والدلالة والسرديات لسبر كل ما يمثل مرجعية للنص والخطاب - أنظر: أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، ص 92 - 97 -. وبقدر ما تتعاند هاتان المحصلتان فإن ثمة منافع متوقعة في حال توليد إدراك جامع بين أدوات وآفاق كلا القراءتين وتمت الاستفادة من مكاسب العلوم الحديثة في تعزيز النقلات النوعية التي تتراوح حولها دراسة يحيى محمد دون أن تضرب في العمق.
ومن جهة أخرى فإن المنافحة التي يوليها المؤلف للواقع وإن كانت تحتفظ بقيمة ابستمولوجية واضحة إلا أنها لا تكشف الجديد في سياق التجديد الديني وتظل تردّد القيم الفكرية ذاتها المتعلقة بالمقاصد الكبرى للتشريع ومراعاة الظروف والوقائع، ويعود ذلك أصلا إلى غياب التأسيس النظري المتكامل لمقولة مرجعية الواقع ليس في مشروع يحيى محمد فقط وإنما في باقي المشاريع الإسلامية الأخرى التي تقف عند الزاوية ذاتها، ومرد ذلك في الأساس إلى إشكالية المقولة ذاتها والغموض الفلسفي الذي يلفها لا سيما مع وجود العديد من التوجهات الفلسفية التي تؤسس مقولاتها وفق تجريبها الخاص للواقع والواقعية. والاشتباك الكبير الذي يمكن أن يجري مع أفكار يحيى محمد يكمن في مرحلة ما قبل جعلية الخطاب وما يترتب على هذه المرحلة من مفاهيم عقائدية وغيبية قارة في الذهن العقائدي الإسلامي، إذ تتجاوز مفهومة الواقع هذه المرحلة وتقصر وظيفة الخطاب على تغطية الواقع مما يستحيل معه فهم هذا الخطاب دونما علاقة دلالية رأسية مع هذا الواقع. ومع أن الناحية التشريعية قد ترتبط مباشرة بما بعد الجعل الثبوتي للخطاب إلا أن المعارف المعنوية والعرفانية تخرج من هذا النطاق وتنسجم مع أجواء أخرى لا ترتسم وفق معادلة الواقع الدلالية التي يجريها الكاتب بصرامة.
ومن ناحية أخرى فإن الرهان على دراسة الواقع التفصيلي في القضاء على التعارضات التفسيرية والتشريعية المؤسسة على أساس الرؤية الماهوية، يواجه تساؤلات جادة حول آليات دراسة هذا الواقع. فالمسألة أننا لسنا بازاء واقع بقدر ما نحن أمام تاريخ ومعطيات تاريخية متعددة، وهو ما يحيلنا على إشكالية قراءة التاريخ وتأويل الوثائق والتسجيلات القديمة. ولا شك أننا في هذا الإطار ندخل بابا مغايرا لخصوصيات ما نفهم أنه واقع وقائم بالفعل وبالتالي لا نقيم معه علاقة إشكالية يستلزمها عدم الوثوق والشك. ولهذا نجد الكاتب يضطر إلى التسليم الإجمالي بالنصوص والأحداث محل بحثه لكونها مأخوذة من الدوائر التراثية المعتبرة من غير أن يستدعي تاريخيتها إلا في حالة كونها ناظرة إلى الواقع كمنطلق للصدور الأول، أما ما تفترضه هذه التاريخية من عطل وتزوير وخضوع للمختلقات والأهواء وعلاقات القوى والتغالبات المذهبية والسياسية فإنه لا يكاد يحضر في عموم بحوث الكتاب التي استعرضت النماذج الخاصة بحركة الواقع والتشريع. وتلكم مثلبة يحافظ عليها الكتاب مادامت دوافعه تتقاطع مع إلحاحات الواقع اليومي وضغوطه أكثر من منجزات الواقع المعرفي وإسهاماته الحديثة
العدد 41 - الأربعاء 16 أكتوبر 2002م الموافق 09 شعبان 1423هـ