كان واضحاً من خلال مشاركتنا في الاجتماع التشاوري العربي حول أهداف التنمية المستدامة (التنمية المستديمة كما يروق للأخوة التونسيين تسميتها) الذي عُقد في قُمَّرت، تلك المدينة الساحلية بالجمهورية التونسية يومي 18 و19 نوفمبر / تشرين الثاني 2013، بتنظيمٍ من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) وبالتعاون مع جامعة الدول العربية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ووزارة التجهيز والبيئة بتونس، أن المنطقة العربية ليست بمنأى عن الإطار الدولي الناشئ للتنمية المستدامة، وأن عليها مسئولية الانخراط في المفاوضات والعمليات الدولية الجارية لضمان انعكاس منظورها وأولوياتها فيها على نحوٍ كافٍ، مع مراعاة تبني وتنفيذ ذلك الإطار على الصعيدين الإقليمي والوطني معاً.
على مدى الأشهر القليلة الماضية، فإن ثمة مشاورات شهدتها المنطقة العربية بشأن أهداف التنمية المستدامة وخطة التنمية لما بعد 2015، فقد عُقد اجتماع التنفيذ الإقليمي العربي لمؤتمر ريو + 20 الأخير في دبي في مايو/ آيار 2013، ونوقشت خطة التنمية لما بعد 2015 في منتدى التنمية العربي الإقليمي لمجموعة الأمم المتحدة للتنمية بعمّان في أبريل / نيسان 2013، والمشاورة الإقليمية بشأن ما بعد 2015 مع المجتمع المدني ببيروت في مارس/ آذار 2013، هذا فضلاً عن المشاورات الوطنية في كل من الأردن والجزائر وجيبوتي والمملكة العربية السعودية والسودان والعراق والمغرب واليمن.
وتمخض جدول أعمال عالمي جديد للتنمية المستدامة للسنوات المقبلة في مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة الذي عُقد في ريو عام 2012 (ريو + 20)، فشمل عدداً من النتائج الرئيسية التي تترتب عليها آثار على المنطقة العربية، وكان أحد أبرز النتائج اتفاق الحكومات على وضع «أهداف التنمية المستدامة» لتحلّ محل الأهداف الإنمائية للألفية وتوفر إطاراً جديداً لخطة التنمية لما بعد العام 2015، لتكون صالحةً للتطبيق على البلدان جميعاً دون استثناء، مع إمكانية تطويعها للوقائع والأولويات الوطنية.
يشار إلى أنه في يناير/ كانون الثاني 2013 وكنتيجة لمؤتمر ريو + 20، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة الفريق العامل الحكومي الدولي المفتوح العضوية لإعداد مقترح لأهداف التنمية المستدامة، ويرأس الفريق بشكل مشترك كل من كينيا وهنغاريا، ويشمل ممثلين عن ستة بلدان عربية، هي: الإمارات العربية المتحدة وتونس والجزائر والمملكة العربية السعودية ومصر والمغرب ـ ولا نعلم إن كان هناك موقعٌ لحكومة مملكة البحرين في هذا الفريق، ومن جملة المشاورات الجارية بهذا الشأن ـ إذ من المؤمل أن يعدَّ الفريق بحلول سبتمبر/ أيلول 2014 تقريراً يتضمن مقترحاً لأهداف التنمية المستدامة لتنظر فيه الدورة التاسعة والستون للجمعية العامة.
إلى حد الآن، فإن المشاورات والتقارير التي أُعدت تشير إلى أن جوهر خطة التنمية يجب أن تكون مجموعة واحدة ومتوازنة وشاملة من الأهداف تشمل البلدان جميعاً دون استثناء، بحيث تهدف إلى القضاء على كافة أشكال الفقر (كهدف جامع)، وإلى إدماج أبعاد التنمية المستدامة المختلفة، وأن تكون أوسع نطاقاً من الأهداف الإنمائية للألفية لتعكس التحديات الجديدة، وفي الوقت ذاته ينبغي على البلدان جميعاً الاعتراف بالتحولات العميقة اللازمة (الانتقال إلى أنماط إنتاج واستهلاك مستدامة وحوكمة فعالة وشراكة عالمية متجددة ووسائل للتنفيذ)؛ للتصدي للتحديات الناشئة للتنمية المستدامة.
وقد جاء هذا الاجتماع التشاوري الأخير في سياق مواصلة الحوار العربي الإقليمي بشأن أهداف التنمية المستدامة وخطة التنمية لما بعد 2015 في ضوء المشاورات العالمية الأخيرة والجارية بشأن هذا الموضوع، وخصوصاً نتائج الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة واجتماعات الفريق العامل المفتوح المعني بأهداف التنمية المستدامة؛ بهدف إطلاع المشاركين على التقدم المحرز حتى الآن والخطوات اللاحقة، وإجراء المناقشات المعمّقة حول المنظور الإقليمي بشأن أهداف التنمية المستدامة بحيث يتلاءم مع الأولويات الإقليمية العربية ومع التقدم المحرز في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، والتوصل إلى رؤية متجانسة بشأن القضايا المفاهيمية الرئيسية التي ستصيغ أهداف التنمية المستدامة وخطة التنمية لما بعد العام 2015.
لاحظنا أن أكثر المسائل أهمية في هذه المشاورات هو تحديد وسائل التنفيذ (أي وضع هدف خاص بوسائل التنفيذ) على المستويات الثلاثة: التمويل والتكنولوجيا وبناء القدرات، وهي التي أكدت عليها السيدة شهيرة وهبي، رئيسة التنمية المستدامة والتعاون البيئي الدولي ورئيسة قسم العلاقات متعددة الأطراف بجامعة الدول العربية في كلمتها الافتتاحية بالاجتماع.
يمكن القول أن المنطقة العربية شهدت تقدماً في تحقيق عدد من غايات الأهداف الإنمائية للألفية، إلا أن ثمة قصوراً في معالجة جملةٍ من القضايا كعدم المساواة وجودة التنمية والحوكمة والشراكة الإقليمية، وعليه فإن من الأهمية بمكان الاستفادة من التحوّلات السياسية التي تشهدها بعض الدول العربية لتكون مدخلاً لتحقيق تطلعات الشعوب، ولينصبّ الاهتمام في الإطار الإنمائي لما بعد العام 2015 على القضايا الملحة كالحكم الرشيد وتخطي القياس الكمي للتنمية عبر التركيز على جودة التنمية وتمكين المرأة ومكافحة عدم المساواة وتعزيز التنمية المستدامة للجميع.
أجمع المشاركون في الاجتماع التشاوري على بعض أولويات المنطقة العربية لما بعد 2015 وذلك عبر استمرار التركيز على أهداف الألفية، واحترام حقوق الإنسان والعدالة والحوكمة وسيادة القانون، خصوصاً في الدول التي لازالت تعاني من اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار سياسي ووجود ضعف في الحوكمة السليمة.
لقد أدرك العالم المتقدم بأن الحكم الرشيد هو السبيل الأمثل للنمو الشامل، إذ تظهر التحاليل أن الدول التي تمرُّ بنزاعات سياسية وعدم استقرار هي في طليعة تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وبالتالي يجب أن تتركز أولوية المنطقة العربية في إعادة بناء المؤسسات، خصوصاً في الدول التي تمرّ بمرحلة انتقال سياسي.
إن العمل جارٍ على تضمين النتائج والتوصيات التي توصل إليها المشاركون في الاجتماع التشاوري الأخير بالتقرير النهائي، وهو الذي سيمِّهد الطريق لحدث إقليمي حكومي لاحق من المزمع عقده في أوائل العام 2014.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 4096 - السبت 23 نوفمبر 2013م الموافق 19 محرم 1435هـ