من صفات الملاحم كما يصفها المنشغلون بالحضارات الإنسانية لمختلف حقب التاريخ الساحقة، أنها تشتمل على أحداث جسام وأن يكون ميدان أحداثها شديد الاتساع، وأن تتسم تصرفات البطل بالشجاعة الفائقة حتى لتكون خارقة في كثير من الأحيان، فضلاً عن مشاركة الآلهة والملائكة والشياطين فيها. وأن يكون بطل الملحمة شخصاً جليلاً ذا مكانة كبيرة بين أبناء وطنه، أو في العالم أجمع: وتحظى بأهمية تاريخية أو أسطورية.
وتظل الملاحم عبارةً عن أعمال أدبية صاغها خيال الإنسان وطموحه نحو السمو والكمال. مثل ملحمة جلجامش السومري، التي تمحورت حول: القوة والجنس، والبحث عن سر الخلود، الذي هو عبارة عن سراب وانتهت بالحكمة وذلك بالرضوخ للواقع بأن الإنسان فانٍ لا محالة، وأن الأعمال الجسام مثل البناء العظيم يمكن أن يخلَد الأبطال.
والمتتبع للملاحم المختلفة عبر تاريخ البشرية يجدها غاية في الضآلة والتقزم، إذا ما قورنت بملحمة الطف الخالدة. هذا مع الإقرار بالأدوار العظيمة التي أنجزتها الحضارات القديمة في ركب تقدم الإنسانية. فملحمة كربلاء الحسينُ (ع) لم تكن ضرباً من الخيال ولا الخرافة، بل كانت واقعاً سجّل تفاصيلها التاريخ، وتجسدت عظمتها في أنها جمعت جميع القيم العظيمة التي جاء بها الإسلام المحمدي الأصيل كما نزل على جده المصطفى خاتم النبيين محمد (ص)، والذي هو خلاصة لجميع الأديان السماوية منذ خلق سبحانه وتعالى أبانا آدم (ع)، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فجميع قيم الإسلام الحنيف قد تمثلت في ملحمة كربلاء الخالدة، وفي مقابلها تمثلت وبجلاء في الطرف الآخر كل قيم الخسة والنذالة والانحطاط الأخلاقي متمثلة في الأفعال الشنيعة التي ارتكبت، حتى أن بعضها لم تكن معروفةً عند العرب ولا حتى عند الأقوام الأخرى، مثل منع الماء، ورضّ الأجسام الطاهرة بحوافر الخيل، وحز الرؤوس وحملها على أسنة الرماح، وإدخال بنات الرسول بمجلس طاغية زمانه يزيد بن معاوية.
شكلت ثورة الإمام الحسين (ع) نقطةً فارقةً ومنعطفاً تاريخياً دقيقاً في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث إنه (ع) ومن منطلق المسئولية الشرعية والأخلاقية قد رفض حكم الطاغية يزيد بن معاوية، الذي نصب بغير حق في تولي أمور المسلمين. وعليه فقد أعلنَ الإمامُ بكل جلاء أسبابَ الثورةِ، وحدد وأوضح نهجها ووسائلها كما بين عاقبتها وجوائز من مشى ويمشي في ركبها المبارك. وهذه بعض من أقواله الخالدة لندلل على ذلك، حيث قال: «إنى لم أخـرجْ أَشِراً ولا بَطِراً ولا ظالماً ولا مُفسِداً، وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ فى أمةِ جدِّي رسولِ اللهِ». كذلك أوضح «ألا وإنَّ هـؤلاءِ قـد أظهرُوا طاعـةَ الشيطانِ وتركوا طاعـةَ الرحمنِ واتخذُوا مالَ اللهِ دُوَلا وعبادَهُ خَوَلا وأنا أحقُّ مَنْ أُغَيِّرُ». وقال «ألا تَرَوْنَ إلى الحـقِّ لا يُعملُ به، وإلى الباطلِ لا يُتَنَاهَى عنه، ليرغبَ المؤمنُ فى لقاء اللهِ مُحِقاً، فإني لا أرى الموتَ إلا سعادةً والحياةَ مع الظالمين إلا بَرَماً».
وقد ارتبطت ملحمة كربلاء ورسالتها الخالدة التي هدفت بأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشّيطان هي السّفلى، بالكرامة الإنسانية، وبرفض الظلم والطغيان والاستبداد وبالشعار الخالد الذي رفعه سيد الشهداء (ع): «هيهات منّا الذلّة». فنبل المقصد والغاية ورقي الوسيلة والنهج، وعظم التضحيات الجسام، كلها عوامل ساهمت بتخليد هذه الملحمة، وبقائها، وأن تكون جذوةً مشتعلةً لكل من يرنو للحرية والكرامة من مختلف شعوب العالم، من أدناها إلى أقصاها، حتى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض وما عليها.
فسلامٌ على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 4086 - الأربعاء 13 نوفمبر 2013م الموافق 09 محرم 1435هـ
شكرا لك ايها الكاتب على تفضلك وذكرك لهذه الملحمة الفذة التي لا نظير لها.
هي فعلا خالدة
كما اوضحت يا عزيزي ان الظروف المختلفة حتمت على الامام الحسين ع ان ينهض ويتحمل المسأولية الكبيرة في وضع الحد الشرعي للمنزلق الذي توجهت له الامة وهو الملك العضود. فذلك التوجه له تبعاته حتى يومنا هذا. وهذا ما يفسر من خوف منهم على شاكلة يزيد واعوانه من سيرة الامام الحسين ع ومن المضي على اهدافها السامية. هي اهداف ليس فقط للشيعة لوحدهم، او للسنة او اي طائفة مسلمة، بل هي للرنسانية جمعاء. فعلا هي ملحمة بكل ما تحمل هده الكلمة من معاني. وعليه فأنها ستظل خالدة وباقية مادامت السموات والارضين. وطوبى ..
كربلاء
مأجورين