الثروة الفكرية للمرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة محط اهتمام الباحثين في الشأن الإنساني والبيئي، وتشكل ذكرى رحيله في الثاني من نوفمبر مناسبة وطنية وقومية يتفاعل معها نخبة من الشعراء والكتاب الإماراتيين والعرب اعتزازاً بموروثه الإنساني.
ولذكرى رحيل زايد موقعها المميز في معالجات المختصين حيث تشكل محطة للمراجعة ومقاربة ما تركه من ثروة فكرية، مع واقع المتغيرات الحديثة في منظومة مفاهيم الحق الإنساني بالمواثيق والمبادئ الدولية. وقراءة جوهر مضامين ما تركه من ثروة فكرية، يجعلنا نتبين مدى البعد الإنساني في مشروعه لبناء الدولة العصرية المرتكزة في قواعدها على مبادئ الكرامة الإنسانية وحق إنسان الإمارات في العيش الكريم.
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، شخصية تاريخية استثنائية، وتشكل مرئياته الفكرية وجهوده البيئية مدرسة للتخطيط الاستراتيجي البيئي والتنموي، وتركت أفكاره في الشأن البيئي والإنساني أثرها الملموس في بناء دولة عصرية، وجرى التركيز في مشروعها التنموي على مقومات صون كرامة الانسان وضمان حقوقه في العيش الكريم والأمن. وقد أرسى الأسس المنهجية التي بموجبها جرى العمل على تسخير الموارد والثروات البيئية في توفير متطلبات الحياة الكريمة لإنسان الإمارات، وتمكن بحكمته من إرساء الخطط العملية في صون معالم البيئات الطبيعية وجعل الإمارات في مقدمة الدول الراعية للبيئة على المستوى العالمي.
الحديث عن الثروة الفكرية التي تركها حكيم القرار البيئي، لا يمكن أن يكون بمعزل عن معالجة جوهر المنهج الفكري للمدرسة البيئية التي أرسى قواعدها ومنطلقاتها الفكرية، كفلسفة إنسانية وفكر حضاري، وارتباط ذلك بالتنشئة الأسرية والمعيشة الاجتماعية وبالتكوينات الثقافية والقيم والتقاليد الأصيلة للمجتمع الذي نشأ فيه وتكونت شخصيته وبنيت معتقداتها ورؤاه ومنطلقاته الفكرية، وذلك ضمن نسيج موروث الحضارة العربية القديمة والحضارة الإسلامية في الحفاظ على النظم البيئية وحماية الحق البيئي للإنسان. وكذلك تمحور وتعزز مقومات دوره التاريخي في إثراء ذلك الفكر وتدعيم قدراته في إحداث التحولات النوعية ذات البعد الحضاري.
المدينة المستدامة كمفهوم حديث قبل أن تكون مصطلحاً متداولاً ضمن المفاهيم البيئية، كان جوهر مضامينها حاضراً ضمن مرئيات زايد في شأن بناء المدينة العصرية التي توفر الظروف المعاشية والحياتية للإنسان وهي تشكل محوراً استراتيجياً في فلسفته للبيئة والتنمية ويمثل الإنسان محورها الرئيس وذلك ما يمكن تبينه ضمن المقابلة المنشورة في مجلة «البيئة والتنمية»، (عدد نوفمبر - ديسمبر 1997) التي أشار فيها إلى أنه «كان ثلثي المواطنين عندنا من البدو الرحل، فبدلاً من دفعهم للانتقال إلى المدن الحديثة عملنا على أن ننقل إليهم أساليب الحياة العصرية حيث أوصلنا إليهم الماء والغذاء والسيارات ومضخات لرفع المياه، كما بنينا المساكن والمراكز الصحية والمدارس وزرعنا الغابات في الصحراء حتى بلغت الأشجار تخوم الربع الخالي. وقد أدى انتشار الرقعة الخضراء إلى تزايد أنواع الطيور التي تبقى فيها للتكاثر». ويقول «في البادية خيرات عاش عليها الأجداد لكن الشباب يهجرها ويطلب الرزق في المدن، فمهّدوا هذه الكثبان واجعلوا فوقها مزارع وليكن هنا رزق وفير يبقى الشباب فلا يهاجر».
إن تلك المرئيات ومناهج العمل التنموي والبيئي التي يؤكد عليها زايد وجدت حضورها في مبادئ الوثيقة الختامية لمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة – ريو+20، وما جرى الإشارة إليه يتوافق في جوهره مع المبدأ «134» الذي يجري التأكيد فيه على أن «المدن إذا أحسن تخطيطها وتطويرها، بما في ذلك من خلال الأخذ بنهج متكاملة في تخطيطها وإدار??ا، صارت مهد ا???تمعات تتحقق لها الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.» وفي هذا الصدد يشير المبدأ ذاته الى أن المجتمع الدولي يسلم «بضرورة الأخذ بنهج متكامل في مجال التنمية الحضرية والمستوطنات البشرية يقوم على توفير السكن والبنى التحتية بتكلفة يسيرة، ويعطي الأولوية لتحسين أحوال الأحياء الفقيرة وتجديد المناطق الحضرية.» ويلتزم «بالعمل من أجل تحسين جودة المستوطنات البشرية، بما في ذلك تحسين ظروف المعيشة والعمل لسكان المراكز الحضرية والمناطق الريفية في إطار السعي إلى القضاء على الفقر حتى يتسنى لجميع البشر الحصول على الخدمات الأساسية وعلى السكن ووسائل التنقل». ويسلم أيضاً «بضرورة الحفاظ على النحو المناسب، على التراث الطبيعي والثقافي للمستوطنات البشرية، وإحياء المواقع التاريخية، وتأهيل مراكز المدن.».
كما أن المنظومة القيمية للثروة الفكرية لزايد، وجدت حضورها أيضاً في ما يجري التأكيد عليه في المبدأ «135» من الوثيقة سابقة الذكر الذي يؤكد على أن المجتمع الدولي يلتزم «بتعزيز سياسات التنمية المستدامة التي تدعم خدمات الإسكان والخدمات الاجتماعية الشاملة للجميع؛ وبتوفير بيئة عيش مأمونة وصحية للجميع، ولاسيما للأطفال والشباب والنساء والمسنين والمعوقين؛ وتوفير النقل والطاقة المستدامين والميسورين؛ وتحسين المساحات الخضراء والآمنة في المدن وحمايتها وإحيائها؛ وتوفير مياه الشرب ومرافق الصرف الصحي المأمونة والنقية؛ وتوفير نوعية هواء صحية؛ وخلق فرص للعمل اللائق؛ والرفع من مستوى التخطيط الحضري، وتحسين أحوال الأحياء الفقيرة.»
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4080 - الخميس 07 نوفمبر 2013م الموافق 03 محرم 1435هـ