الضعفاء ليس لهم مكان في صنع السياسات، والمنتصرون وحدهم يصنعون القرارات، ويملكون القابلية على تنفيذها. يصدق ذلك في كل الأحوال، ويبرز بصورة جلية عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الدولية، حيث يغدو أي خلل مستجد في موازين القوى، مدعاةً لبروز قوى وأفول أخرى.
وفي هذا الاتجاه، تشكّلت أهم مؤسستين أمميتين في العصر الحديث، عصبة الأمم، التي تشكلت بعد هزيمة المحور، الذي ضم ألمانيا والنمسا والمجر، وانتصار الحلفاء، وخروج الولايات المتحدة الأميركية من خلف المحيط، إلى قلب العالم.
الحروب عادةً، تبدأ بأهداف محددة، إلا أن تطور مجراها يتكفل بإسدال الستار على تلك الأهداف. وخلال الحروب تتحرك الرمال بسرعة، وتتغيّر خرائط التحالفات. فلم يدر بخلد مَن أشعلوا الحرب العالمية الأولى، أن تكون هذه الحرب سبباً مباشراً، لاندلاع الثورة البلشفية في روسيا. لقد استغّل زعيم الثورة لينين، تصويت الجند بأقدامهم ضد استمرار الحرب ليشعل الثورة، ويحقق النصر. ولم يدر أيضاً بخلد السلطنة العثمانية، أن التحاقها بالحرب، لمصلحة المحور، سيكون الفصل الأخير في عمرها.
وعبدّت نتائج الحرب العالمية الأولى الطريق لبروز نظام دولي جديد، ومهّدت لحربٍ أخرى، انتهت بسيادة الثنائية القطبية على صناعة القرار الأممي. كما حرضت على إشعال الشعور القومي المتطرف وبروز النازية، وتقهقر قوة الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية. ومنذ نهاية تلك الحرب، أصبحت أميركا وروسيا دولتين يحسب حسابهما في صناعة القرارات الدولية.
جرى تقاسم تركة السلطنة العثمانية، بين الفرنسيين والبريطانيين، لكن القسمة لم تعكس قوتهما، على أرض الواقع. فقد بدأ مشروع الإزاحة الأميركي لهما بشكل تدريجي منذ ذلك التاريخ. وكانت المحطة الأولى في هذا المشروع، إعلان الرئيس الأميركي ويلسون لمبادئه الأربعة عشر، التي أقرت حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة. بمعنى أن قسمة سايكس - بيكو لم تعد متسقة مع التطور التاريخي. وجرى تحايلٌ على القسمة، بتوصيف احتلال العراق وسورية والأردن وفلسطين ولبنان، بتعبيرات دخلت القاموس السياسي لأول مرة، هي الحماية والوصاية والانتداب، وجميعها تحمل معنى واحداً هو الاحتلال.
انتظر الأميركيون والروس، تحوّلاً آخر، في موازين القوى، للانقضاض على الإمبراطوريات القديمة. وجاءت الحرب الكونية الثانية لتحقق هذا الهدف. لقد تأكد من خلال النمو المضطرد لحركات التحرر الوطني، في بلدان العالم الثالث، أن قوة بريطانيا وفرنسا إلى أفول، وأن الستار سيُسدل نهائياً على وجود الإمبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس.
برزت الأمم المتحدة، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وصدر الميثاق معبّراً في نصوصه، عن مصالح المنتصرين. فالمنتصرون وحدهم، هم الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن الدولي، ووحدهم يملكون حق نقض قراراته، ولهم خمسة مقاعد من أصل خمسة عشر مقعداً. أما الآخرون، فعضويتهم مؤقتة في المجلس، وغير مجدية إلا في حال امتناع الكبار عن استخدام حق النقض. وكان مصدر عضوية بريطانيا وفرنسا في المجلس أداءهما في الحرب ضد النازية، وتحالفهما مع الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا ما تم الإمعان في استخدامات النقض، التي صدرت منذ تأسيس الأمم المتحدة، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، سنجد أنه موزّعٌ بين القطبين العظميين، الأميركان والسوفيات. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تفرّدت أميركا باستخدامه لأكثر من عقدين، من دون منافس، لتؤكد أن القوة وحدها هي التي تسن وتفرض التشريعات والقوانين الدولية، وأن الأخلاق لا تنصرف في عالم السياسة.
في هذه المرحلة من التاريخ، يشهد العالم منعطفاً كبيراً، يشي بولادة نظام دولي جديد. ففي الغرب، أزمات اقتصادية يومية، وانهيار لبنوك ومصانع، وأعداد العاطلين والفاقدين للمأوى بالولايات المتحدة في ازدياد. يضاف إلى ذلك فشل كبير في محاربة الإرهاب، وسقوط لمشروعات الاحتلال في أفغانستان والعراق.
على الجانب الآخر، صعود كاسح لروسيا والصين والهند، على كل الأصعدة. وطبيعي أن يلقي ذلك بظلال كثيفة على المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي. ويشهد العالم النتائج المروّعة لما عُرف بالربيع العربي، ودوره في انهيار الكيانات الوطنية، وتعزيز دور القاعدة، التي تسرح وتمرح على طول الوطن العربي وعرضه، وفي عدد كبير من الدول الإسلامية.
موازين القوى الدولية تبدلت سريعاً، وليس أدل على ذلك من تراجع الرئيس الأميركي أوباما، الذي وضع خطوطاً حمراء، واقترب من إعطاء الضوء الأخضر، وحدّد ساعة الصفر لضرب سورية، عن قراره قبل يوم واحد فقط، من موعد التنفيذ. فوفقاً للتسريبات الأخيرة، هدّد الرئيس الروسي بوتين بالتدخل في الحرب، من خلال مواصلة تقديم الدعم العسكري والاقتصادي والمساعدات الإنسانية لسورية، وتراجع أوباما فوراً بعد التهديد.
هكذا بطرفة عين، لم تعد الإدارة الأميركية، حصاناً رابحاً. أصبح قيصر روسيا وحده، ومن خلفه منظومة «البريكس»، الحصان الرابح، لتتأكد النظرية القائلة بأنه ليس بعد العمران سوى الشيخوخة.
نحتاج في هذه المرحلة، أكثر مما مضى، إلى قياس خطواتنا. لقد تأكدت مقولة رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل، ليس في السياسة صداقات دائمة. وأمن أمتنا ليس مسئولية أحد، بل هو في المبتدأ والخبر مسئوليتنا. وهي مسئولية، عمادها التمسك بالثوابت القومية، وتعزيز الوحدة الوطنية لتكون قادرة على مواجهة التحديات، وحماية الثغور من أطماع الطامعين وحقد الحاقدين.
في ما يتعلق بالملفين النوويين الإسرائيلي والإيراني، فالرأي المنطقي يقول إن من حقنا أن نملك ما يملكون، ونتصرف كما يتصرفون. علينا أن نسرع بتطوير القدرات العربية، وبامتلاك التكنولوجيا النووية السلمية. ونحن في ذلك لا نبتدع سابقة، بل نعمل على حماية أنفسنا وتأمين سلامة أمتنا، وذلك حقٌ كفلته لنا قوانين السماء والأرض. وإن جنحوا للسلم، وتوافق المجتمع الدولي على نزع أسلحة الدمار الشامل، من عموم المنطقة، فنحن مع هذا الخيار، لكن حين يسود قانون الغاب فلا خيار لنا غير امتلاك عناصر القوة. وصدق العلي القدير «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . . .».
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4080 - الخميس 07 نوفمبر 2013م الموافق 03 محرم 1435هـ