في منتصف الخمسينيات، كنت في زيارةٍ لبيت الإمام علي بن أبي طالب في الكوفة، وقد لاحظت مع مجموعةٍ مع الأصدقاء أن هناك امرأةً تبكي بكاءً مرّاً وتنشج بصوت مسموع بحيث كان جسدها يهتز بكامله. كانت تمشي بصعوبةٍ وهي تتوكّأ على كتف رجل كان بجانبها، وكان يلوح من لباسهما أنهما أغراب، فخشيتُ ومن معي أن يكونا قد تعرّضا لاعتداءٍ أو سلبٍ في الطريق إلى الكوفة، لاسيما أن المنطقة كانت موحشةً وقبضة الأمن وقتها كانت مرتخية. وعندما اقتربنا منهما سألناهما عمّا إذا كانا قد تعرّضا للأذى، فتحدّث الرجل الذي كان بجوارها وقال: أنا أمين الخولي وهذه زوجتي بنت الشاطئ... نحن بخير وكل ما هنالك أن زوجتي ما أن رأت المنزل الذي ضمّ الحسن والحسين سبطي رسول الله، وعاش فيه الإمام علي ابن أبي طالب حتى أجهشت بالبكاء... اتركوها حتى تهدأ لوحدها»!
جرت هذه الحادثة في خمسينيات القرن الماضي، ونقلها لي الشيخ جعفر المهاجر العاملي، من كبار علماء لبنان، عندما كان طالباً في الحوزة النجفية والذي رواها كشاهد عيان.
ومن المعروف أن عائشة عبد الرحمن المعروفة بـ «بنت الشاطئ» (ت 1998) مفكّرةٌ وكاتبةٌ مصرية، وباحثةٌ وأستاذةٌ جامعية، وهي أول امرأةٍ تحاضر في الأزهر الشريف، ومن أوليات من اشتغلن بالصحافة في مصر. وهي زوجة الأديب المصري الشيخ أمين الخولي (ت 1966). عندما سمعت الشيخ المهاجر يروي لي هذه الحادثة سرحت بعيداً ينتابني إحساس متضارب، بين سرورٍ بذلك الماضي الجميل، وحزنٍ وكآبةٍ بما نشهده اليوم من تنافرات طائفية زرعتها «الأيدي الأثيمة» لتتلقفها بعض الجماعات في مغامرات مضمّخة بالدم وفتاوى التكفير والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة.
كانت مدينة كربلاء الواقعة على بعد 60 ميلاً جنوب بغداد، مسرحاً لمعركة دموية قتل خلالها عشرات من أفراد العائلة النبوية على يد الجيش الأموي العام 61 هـ / 680م، وبقي تأثير المذبحة حاضراً في أذهان أتباع مدرسة أهل البيت وقلوبهم، متجاوزاً من حيث العمق، العديد من المآسي التي تعرّضوا لها خلال التاريخ. يقول المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (ت 1918): «ثمة أحداث تترك آثاراً مدهشة ليس بسبب الحادثة نفسها وما تتخلله بالضرورة من نتائج، بل بسبب الصورة الرمزية التي ترسمها في ذاكرة الناس وقلوبهم».
وليس من شك في أن عاشوراء كانت من هذا النوع من الأحداث، فقد جرى ترميزها كأسطورةٍ للبطولة والصفاء والتضحية بالذات من أجل الأهداف الخيّرة. سياسياً أعيد إنتاج عاشوراء كأساس ثقافي لإنكار مشروعية كل أشكال عسف الأنظمة المركزية.
في البحرين، يكتسب شهر محرم مكانةً عظيمةً لدى المواطنين، إذ تتكثّف فيها مراسم الإحياء في «عاشوراء»، وهي العشر الأوائل من شهر محرم منذ سماعهم بمقتل الأمام الحسين (ع)، من الحجّاج الذين زاروا مكة والمدينة آنذاك، وكانوا يقيمون مآتم العزاء في البيوت، ثم خُصّصت أماكن سميت «مأتم» أو حسينيات، واليوم وصل عدد المآتم المرخصة ما يزيد عن 600 حسينية ومأتم في مختلف مناطق البلاد (حسب «منبر الأوقاف»، العدد الثالث، يوليو 2007). وبينت الإحصاءات أن 52 في المئة من تلك المآتم والحسينيات للرجال و48 في المئة للنساء، وأن ما يربو على 200 منها تأخذ من البيوت مقراً لها.
ويؤكّد البعض أن عدد المآتم في البحرين يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمئة حسينية للرجال، ثلث هذا العدد فقط له أوقاف مسجلة لدى إدارة الأوقاف الجعفرية، والثلثان الباقيان بلا أوقاف، حيث تعتمد في تمويل مصروفاتها على أموال المؤسسين الخاصة، وكذلك القائمين عليها ومن التبرعات التي ترد من الآخرين (عبدالله سيف: «المأتم في البحرين»، ص 25). وأياً يكن الاختلاف في عدد المآتم في البحرين، حيث أن بعضها غير مقيّد بشكل رسمي، فهي بلا شك تعكس مبلغ اهتمام البحرينيين وعنايتهم بهذه المؤسسات والنشاطات الدينية التي ترعاها.
تاريخياً، عرفت البحرين إقامة المجالس الحسينية منذ زمن مبكر، وكان أهالي البحرين يقومون بعقد المجالس الحسينية في بيوتهم ومجالسهم الخاصة أو في بساتينهم ومساجدهم منذ زمن بعيد، غير أن الحسينية كمؤسسة أهلية قائمة بذاتها كبناء له كيان مستقل، لم يعرفه المجتمع البحراني إلا في العصر الحديث، وربما منذ حوالي أربعمئة عام، أما بالنسبة للمواكب الحسينية المنظمة؛ فالمظنون أن المجتمع البحريني لم يعرفها إلا في عهد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (ت 1932) في الفترة من 1869 حتى 1922.
وقد تطوّرت الشعائر الحسينية منذ ذلك التاريخ من شكلها العفوي البسيط، وأصبحت على ما نراه اليوم من تنظيم وإعداد واسع، مؤسسةٌ لها برامجها وموازنتها وفنونها وأنشطتها الاجتماعية والإنمائية، ودخلت فيها عناصر جديدة، صارت فيها التقنية الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعية أظهرها وأكثرها بروزاً.
في هذا العام، أطلقت جمعية التوعية الإسلامية شعار «عاشوراء... تراحم وتلاحم»، وهو شعارٌ يجسّد هاجس هذه الجمعية ورجال المؤسسة الدينية في البحرين وحرصهم على هذه القيمة الثابتة في الخطاب العاشورائي بوصفه خطاب إصلاح ورسالة إنماء اجتماعية راقية تعلو على أي رهان آني وحسابات سياسية مرحلية.
جمعية التوعية التي عرفت بنشاطها الدؤوب خلال مواسم عاشوراء لسنوات خلت، دشنت مشاريع نوعية منها ما يخص رعاية الطفولة، ومنها ما يخص حملات التبرع بالدم، ومشاريع كفالة اليتيم، وأسابيع الوحدة الإسلامية والأنشطة الثقافية التي تخاطب الجاليات الأجنبية. وإذ تخرج علينا اليوم بهذا الشعار الذي يأتي ضمن سلسلة برامج وفعاليات انصبت جلها في صالح تعزيز الوعي الديني والوطني بأهمية اللحمة الوطنية انطلاقاً من شعارات عاشوراء الإصلاحية ونبل قيمها؛ إلى تفعيلٍ لمفاهيم الانسجام الاجتماعي، وتوطيد العلاقات والتقارب بين جميع التوجهات المجتمعية، وترسيخ التراحم والتلاحم بين مجاميع الوطن الواحد والأمة الواحدة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4077 - الإثنين 04 نوفمبر 2013م الموافق 30 ذي الحجة 1434هـ
تناقض
شعار عاشوراء هذا العام التلاحم والتراحم
اين هم من هذا الشعار في العام الماضي حيث تكلم السيد عبدالله الغريفي عن موضوع التطبير .....وهل التطبير هو المشكلة الوحيدة في عاشوراء ؟
وهذا العام معظم الخطباء او العلماء تكلموا عن المضيفات وانه يجب ان تقنن
السؤال الذي ارغب في طرحة لماذا نتجه الى امور صغيره ونترك المشكلة الحقيقية ؟
لماذا العماء باسرهم بدل ان يتكلموا عن شعيرة التطبير وعن المضيفات فليتكلموا عن الانحلال الاخلاقي في موسم عاشوراء من تبرج ولبس وغيرها من الامور
سلمت يداك
أ.وسام .. دائما مقالاتك تحفر لها مكانا في الذاكرة فهي ترتبط بشكل وثيق بالعقائد والقناعات .. ابحاثك تنم عن اطلاع واسع ودراية كبيرة .. وفقك الله لخدمة هذا الجيل وتثبيته على هذا الخط
شكرا لمرورك الجميل
شكرا لمرورك الجميل صديقي .. ممتن للمتابعة