العدد 4073 - الخميس 31 أكتوبر 2013م الموافق 26 ذي الحجة 1434هـ

ابتسم... أنت في الشارقة

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

بعد ألفة مع مناخ الصقيع دامت ستة عشر عاماً، شعرت فيها بحميمية العلاقة مع بيئة المكان وثقافة المحبة والكرم الانساني التي أحاطني بها لفيفٌ من أبناء الشعب الأوكراني، وعلى وجه الخصوص زملائي في قسم القانون الاكيولوجي في كلية الحقوق بجامعة كييف التي تحمل اسم الرمز الوطني لأوكرانيا «تراس شفشنكا»، وعائلة زوجتي وأسرة صديقي ايجور نيتوفكين، الأسرة التي اعتبرتني ابنها وتحرص في الحفاظ على علاقتنا الحميمية التي بنيت منذ أن جمعتني غرفة واحدة في السكن الجامعي مع ابنها (ايجور). حزمت أمتعتي للرحيل كما الطيور المهاجرة تاركاً ورائي مخزوناً من الذكريات الجميلة التي يصعب تجاوز قيمتها الإنسانية.

كان الجو في تلك المرحلة من السنة جميلاً، وكانت شوارع العاصمة كييف تزينها أوراق الأشجار الزاهية بألوانها الذهبية، وأضاف فصل الخريف على تلك المدينة العريقة بتاريخ إرثها الحضاري، بعداً جمالياً. وكنت أسير في الشوارع وأنظر إلى تلك اللوحة الرائعة في جمالها الطبيعي، حيث امتزج منظر قباب الكنائس المطلية باللون الذهبي وأوراق الأشجار الكثيفة في شوارع المدينة التي تحولت بفعلها إلى لوحة فنية بديعة الجمال بألوانها الذهبية.

وعندما حان موعد الرحيل، ذهبت إلى شاطئ نهر الدنيبر وجلست مسترخياً استمتع بجماله الطبيعي وأراقب حركة ماء النهر والطيور والأشجار المحيطة بضفافه ومجاميع البشر التي أخذت تزحف في زرافات إلى شواطئه لأخذ قسط من الراحة والاستمتاع بأجوائه الجميلة. كنت أعيش حالة تأمل وأستعيد مسلسل الذكريات، وأتمعن في المشاهد الجميلة لحركة الطيور وهي تجمع شتاتها وتتهيأ للرحيل إلى الجنوب حيث المناخ الدافئ والبيئة الملائمة للبقاء والعيش بعيداً عن أجواء المناخ البارد والصقيع القارس في فصل الشتاء، وتتداخل مع تلك المناظر الجميلة ابتسامات الأطفال وهي تلهو في مياه النهر، وتصنع من أوراق الشجر مناظر وأشكالاً مختلفة تعبر عن رؤيتها لحياتها المقبلة.

وأنا غارق في تخيلاتي أتمعن في قراءة ذلك الواقع والمشاهد الإنسانية المرتسمة أمامي، وإذا بصديقي العزيز ابن سوريا المرحوم «أبوكريم» العالي في أخلاقه وخلقه والذي انتقل إلى جوار ربه مبكراً في بداية شهر يوليو من العام الجاري، ينبهني إلى أنه قد حان موعد الرحيل. كان الطريق إلى المطار يستغرق قرابة الساعة، والتوجّه إليه يمر عبر غابة كثيفة من أشجار الصنوبر الشامخة في علوها، وكنت غارقاً في مشاهدة ذلك الجمال عندما توقفت المركبة بجوار المطار. نزلت إلى الشارع وكان في استقبالي زخّات من المطر جعلتني أعيش حالة من السعادة، وكان صاحبي «أبوكريم» يبتسم فرحاً بما منى الله علينا من خير وهو يردّد إن الله أراد أن يودعك بزخات من المطر ويبشّرك بخير قادم في حياتك، وذلك مقدمة طيبة وستجد من يبتسم في وجهك ويمدّ لك يد العون في حياتك المقبلة.

صعدت إلى الطائرة وكومةٌ من الأفكار والأسئلة تلاحق مخيلتي، أفكّر فيما ينتظرني من مجهول، وعندما حطت الطائرة في مطار الشارقة مساء الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1996، ألقيت نظرةً من نافذة الطائرة وأخذت أتأمل، وما هي إلا لحظات وجدت نفسي في مبنى المطار، وكنت أسير في ممراته وأقرأ ما تتضمنه اليافطات من مقولات وجمل وشعارات معلقة، فلفت نظري جملة رائعة في جمالها: «ابتسم أنت في الشارقة»، فابتسمت وأنا أتساءل عن جوهر معانيها وقيمتها النفسية وبالطبع أثرها الإنساني.

وعندما صعدت إلى مركبة الأجرة متوجهاً إلى مدينة الشارقة لم أكن أعرف وجهتي حيث أنها زيارتي الأولى إلى الإمارات، وغرقت في حوار عميق مع مرافقي حول معنى المقولة وفلسفتها، واستمعت إلى سرد مفصل حول بعد المقولة الاجتماعي والقيمي، وكانت ثقافة الألفة والمحبة والقيم الأصيلة للمجتمع والطابع الثقافي والحضاري التي تتميز به الشارقة جوهر تفسيره لمضامين تلك المقولة.

ومن حسن الطالع قادتني الصدفة أن أستقر في فندق مجاور لمنطقة التراث التي أضفت على نفسي حالة من الفرح الإنساني، وكانت الابتسامة هي عنوان اللقاء الأول مع صديقي الجميل المرحوم جمال عمران، المعروف بقلبه الطيب وشهامته في مساعدة الآخرين، والذي رحل مبكراً إلى العالم الآخر وهو في عمر الزهور. وكان اللقاء الحميمي الذي جمعني مع الصديق حسن مدن في ذلك المكان من اللحظات الإنسانية والجميلة التي لا تنسى.

إن القيمة الإنسانية والأصالة العربية التي تتميز بها المجتمعات المحلية في الشارقة هي جوهر مقولة «ابتسم أنت في الشارقة»، وتلك هي الميزة التي تبيّنت حقائقها طوال فترة عيشي في الشارقة ومن خلال العلاقة الطيبة التي بنيتها مع شيوخها ومع صفوة مميزة من أبناء الأسر الإماراتية الأصيلة في وادي الحلو وكلباء وخورفكان والنحوة وشيص والبطائح والذيد والمليحة والمدام والحمرية والشارقة، الذين أسروني بكرم تقديرهم وأخلاقهم، وتلك بصمات مهمة في حياتي وعلامة لن تفارقني.

حقيقة ينبغي قولها، إن الابتسامة معيار أخلاقي وأحرص في أن تكون رفيقة دربي ومنهجاً دائماً في علاقاتي بالآخر وفهمه، مهما يكن ذلك الآخر في بعده وقربه مني في مستوى توافقه واختلافه في الرؤى والفكر والمعتقد. وكم أتمنى أن تبقى الابتسامة عنوان حياتنا ومضمون سلوكنا في تنظيم علاقاتنا الاجتماعية وقاعدة في اتفاقنا واختلافنا، ومسار حواراتنا في حل معضلاتنا الشائكة في عصرنا المشحون بالمتناقضات.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 4073 - الخميس 31 أكتوبر 2013م الموافق 26 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:39 م

      رائع يا دكتور شبر

      اسعدني جدا قراءة المقال الذي خطته اناملك يا دكتور شبر، انت كما عرفت في الشارقة مبدع الى ابعد الحدود، بالتوفيق مع الزملاء في صحيفة الوسط...
      تحياتي لك
      نضال القاضي
      جريدة الخليج

    • زائر 2 | 4:48 ص

      وصف جميل والعنوان أغفل نصف المقال

      حقيقة استمتعت وأنا أقرأ المقال والوصف الجميل لأوكرانيا ثم الشارقة تلك المدينة والأمارة العربية المتميزة بألأصالة والشهامة العربية. ملاحظتي أن مقدمة المقال الممتعة (مغادرة أوكرانيا - كييف) أخذت أكثر من نصف المقال ومع ذلك فإن عنوان المقال أغفلها. كان يجب أختصار المقدمة أو وضع عنوان للمقال يشمل المكانين الرائعين.

    • زائر 1 | 3:41 ص

      مقالات تنعش الروح بعيدا عن الشحن والتحريض !

      وصف رائع ودافئ لأجواء الاتحاد السوفيتي السابق يثير الذكريات في ذلك الزمن الجميل وحميمية إمارة شقيقة مثل الشارقة لم نسمع عنها وعن شيوخها إلا كل خير

اقرأ ايضاً