أخيراً، تنفس الأميركيون والعالم أجمع الصعداء، إثر إقرار الكونغرس الأميركي مشروع رفع سقف دين الحكومة الفيدرالية، بعد أن ساد الخوف من تمسك الكونغرس بموقفه، بما كان سيؤدي إلى إعلان إفلاس أضخم إمبراطورية اقتصادية في التاريخ.
الخلاف في الأصل، لم يكن حول رفع سقف الذين، بل حول الموازنة الأميركية الجديدة. وكان الجمهوريون الذين يشكلون أغلبية أعضاء المجلس البرلماني، يرون في التمسك بمنع الحكومة الفيدرالية من رفع سقف الدين، قوة ضغط لفرض مطالبهم بتعديل بنود الموازنة الجديدة. ولاشك في أن الأزمة ألحقت أذى كبيراً بالاقتصاد الأميركي، حيث تقدر الخسارة التي لحقت به خلال فترة الأزمة القصيرة بتسعين مليار دولار، إضافة إلى حرمان أكثر من ستمئة ألف موظف بالحكومة الفيدرالية من العمل.
لقد سرّح أكثر من ثلث الموظفين الفيدراليين، وأغلقت جزئياً بعض الدوائر الفيدرالية. وأدى ذلك لتوقف الحياة في الكثير من المصالح الحكومية والخاصة، بما في ذلك المسارح والمتاحف. وبلغت الأزمة حد العجز عن دفع مرتبات الرئاسة. وقدرت مؤسسة «غولدمان ساكس»، أن إغلاق الدوائر الفيدرالية ثلاثة أسابيع قد يؤدي إلى خفض 9.0 % من إجمالي الناتج المحلي لموسم الخريف.
الأزمة في جذورها، نتاج للخلاف في أيديولوجية وبرامج الحزبين الرئيسين، والموقع الطبقي للجمهور المناصر لهما. فالجمهوريون يمثلون أرباب العمل، وذلك يعني تجانس مصالحهم، بما يعطي ثباتاً نسبياً لمواقفهم، كما يعني في محصلته تغليب مصالح الكارتلات، وإطلاق مبدأ آدم سميث «دعه يعمل». وعلى رأس برامجهم، تخفيض الضرائب، وذلك يفرض على الدولة تقليص مؤسساتها وأفرادها ومختلف أنشطتها، بما في ذلك فعاليات الرعاية الاجتماعية، لمصلحة الحرية الاقتصادية.
أما الديمقراطيون، فإن هيكلية حزبهم، والقوى التي يمثلونها لا تتيح لهم الفرص المتاحة لغرمائهم. فهم يمثلون تحالفاً فضفاضاً ومتنوعاً يشمل مصالح واسعة. فتحت مظلتهم تنضوي الطبقة الوسطى، والأقليات من أصول عرقية مختلفة، بيض وسود وملونين، كما تشمل أتباعاً من كل الأديان، مسيحيين ويهوداً ومسلمين، وعقائد أخرى. ويتواجدون في مختلف مكونات النسيج الاجتماعي، بما يعني استحالة وجود عقيدة جامعة للحزب. ولذلك يستعاض عن الموقف العقائدي بالبرغماتية، لضمان استمرار التحالف بين مجموعات متنافرة.
وتشمل برامجهم، تنشيط الاقتصاد، وتفعيل التأمينات الاجتماعية، وتوسيع نظام الرعاية الصحية لتصل لملايين الأميركيين الذين لا تشملهم خطط الرعاية الصحية، وزيادة دعم التعليم وخفض الضرائب على الطبقة المتوسطة. وتسدّد تكاليف هذه البرامج عن طريق زيادة النسب الضريبية على الطبقات الثرية.
لماذا إذاً، لا يتمكن الديمقراطيون من حصد الأصوات باستمرار، في مختلف المقاعد التنفيذية والتشريعية، ما داموا يسعون لتحقيق الرخاء الاجتماعي؟ الجواب يكمن في الدورة الاقتصادية. فتصاعد الضرائب يؤدي لارتفاع الأسعار، والإقبال على الشراء وهذا ما ينتج عنه انفلات في التضخم الاقتصادي، يخلق أوضاعاً قاسية لا يتحمل ثقلها ذوو الدخل المحدود. وعندها يصبح تقليص ظاهرة التضخم مطلباً وطنياً، بما يتيح المجال لفوز الجمهوريين. وتتكرر الدورة بعد فوزهم. إنهم سيحتوون التضخم، ببرامجهم الاقتصادية، ولكنهم يخلقون ما هو أسوأ منها. إذ إن إضعاف الطبقة المتوسطة ينتج عنه تضاعف في أعداد العاطلين، وانهيار القدرة الشرائية وتضعضع حركة السوق، والنتيجة كساد اقتصادي وعجز. وتتعاقب الدورات بين التضخم، المرتبط ببرنامج الديمقراطيين، والكساد المرتبط بالجمهوريين.
الأزمة إذاً تكمن في عقيدة وبرامج الحزبين. وهي تعبير عن أزمات كامنة تهدد موقع أميركا كقوة عظمى في الخريطة الدولية. فهي تعكس حقيقة الوضع الاقتصادي المتردّي، والعجز عن إيجاد حلولٍ عمليةٍ للأزمة التي برزت العام 2008. لقد جرى التعامل مع الأزمة، بحقن المورفين، وليس بتناولها بالعمق.
وتكمن المعضلة أيضاً في مستوى دخل الفرد الأميركي، الأعلى بكثير من نظيره في الدول الصناعية الصاعدة، كالصين والهند وروسيا، بما يجعل مجمل الظروف تسير لمصلحة تلك الدول. طرحت الإدارة الأميركية حلولاً غير عملية، كالتعويض عن تكلفة الإنتاج العالية، بتصعيد تراكمه وذلك حل غير واقعي، لأن غرماءهم، في الدول الصناعية الصاعدة، يملكون قدرة مماثلة.
الوجه الآخر للأزمة الحالية، يكمن في النظام السياسي الرئاسي الذي تسير عليه أميركا، فهذا النظام يميز بين سلطة الرئيس، والكونغرس، وذلك ليس له نظير في الدول الديمقراطية العريقة. ففي الأنظمة البرلمانية، يدخل الحزب الانتخابات ببرنامج واضح، وحين يحصل على الأغلبية، يشكّل رئيس الحزب الحكومة. أما في أميركا فإن الحزب يمكن أن يتسلم الكونغرس، ويصبح معارضةً إن كان الرئيس من خارجه، أو موالاةً إن كان من أتباعه. والأزمة هذه المرة أن الرئيس هو من الديمقراطيين، بينما الأغلبية بالكونغرس هم من الجمهوريين. وما لم يجر تصحيح هذه المعادلة، فستواجه أميركا أزمات مماثلة.
قرار الكونغرس رفع سقف الدين خطوة أولى لحل الصراع المحتدم بين الرئاسة والكونغرس، ولكنه ليس نهاية المطاف، فالأزمة ستستمر في أوجهها الأخرى، والأميركيون ما زالوا ينتظرون حلاً عملياً، يخرج الميزانية الجديدة إلى النور. وتبدو أوراق الرئيس أوباما مرجحة وأقوى من أوراق خصومه، أمام الجمهور. فهو يرفض شروط الجمهوريين، لأنه يعتقد أنها تضر بمصالح الأميركيين. إنه يقف بصلابة إلى جانب المطالب الأساسية لعامة الناس، من توفيرٍ للتعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وحقوق الناس الأساسية في العيش الكريم. وتلك ورقته الأولى.
وفي كل الأحوال، لن يسمح العالم بانهيار الاقتصاد الأميركي، لأن ذلك كارثة ليس لأميركا فقط، بل وللقوى الصاعدة، إضافةً إلى حلفاء أميركا في الغرب، والعالم أجمع. والجمهوريون، يدركون أن ضعف الدولة، له إسقاطات على أمن واستقرار، وسمعة بلادهم في العالم، ولن يتمكنوا من الاستمرار في عنادهم. لأن ذلك يعني انهيار اقتصاد البلاد، وخسارتهم جمهورهم. وإلى أن يصدّق الكونغرس على الموازنة الجديدة، ستبقى الأنظار معلقة صوبه، في انتظار حل ينقذ العالم من انهيار اقتصادي محقق.
ولا شك في أن هذه الأزمة هي جرس إنذار لحكومات وشعوب العالم أجمع، بأن لا يجري الاعتماد على قوة اقتصادية أحادية مهما بلغت قوتها، وهي تنبيه لنا، بالتركيز على بناء قوتنا الذاتية، في مختلف المجالات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4066 - الخميس 24 أكتوبر 2013م الموافق 19 ذي الحجة 1434هـ